نموذج تطبيقي : معرفة الغير
الفهم:
إن طبيعة الوجود المشترك بين الأنا والغير ضمن وضعية واحدة، فرضت على كليهما الدخول في علاقات تفاعلية مباشرة تضفي على الوضع البشري دينامية خاصة ومتميزة، تأخذ طابعا إشكاليا عندما يتعلق الأمر بمحاولة كل طرف إقامة معرفة بالآخر. وإذا كانت المعرفة، بشكل عام، تقتضي ثنائية الذات في مقابل الموضوع كشرط للتحقق، فليس الأمر بالهين بين ذات وذات (أنا وغير)، وهو ما يحاول النص معالجته، فهو يتأطر ضمن المجال النظري والإشكالي لمجزوءة الوضع البشري، ويتناول الغير كمفهوم أساسي ومركزي، ليعالج مسألة معرفة الغير من خلال الإشكالية التالي : كيف تتحدد العلاقة المعرفية بين الأنا والغير ؟ هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة ؟ هل يمكن يمكن أن تكون البنية المركبة للغير عائقا أمام حصول المعرفة نحوه أم أن هذه البنية نفسها هي شرط حصول المعرفة ؟
التحليل :
إذا كان من السهل الحسم في مسالة العلاقة الوجودية بين الأنا والغير، فمن الصعب مقاربة العلاقة المعرفية، وهو ما حاوله صاحب النص من خلال تقديمه لأطروحة مضمونها "أن المعرفة الكلية والدائمة للغير مستحيلة، لأنه بنية كلية ومركبة خاضعة للعديد من التغيرات والتطورات". وقد عرض هذه الأطروحة من خلال جملة من الأفكار والقضايا المترابطة؛ انطلق فيها من اعتبار المعرفة التي نكونها عن الغير هي معرفة جزئية مصدرها البعد القابل للإدراك في بنية الغير، لكن الغير هو أكثر من ذلك، انه بنية مركبة متعددة الأبعاد والوظائف وبالتالي فإن معرفة بالجزء أو وظيفة الجزء، لا تعني معرفة بالكل. وكفكرة ثانية، مكملة، سيعتبر صاحب النص أن المعرفة التي نكونها عن الغير مؤقتة تحتاج إلى تحيين أو بشكل أدق العمل على التحيين الدائم والمستمر نظرا لطبيعة التغيرات التي تطرأ على بنية الغير مما يجعل هذه المعرفة نسبية أكثر منها يقينية.
وقد اعتمد صاحب النص مفهوم الغير- كمفهوم أساسي ومركزي، باعتباره بنية مركبة خاضعة للعديد من التغيرات؛ كذلك اعتمد مجموعة من التقابلات المفاهيمية ليبرز من خلالها طبيعة وحدود العلاقة المعرفية بين الأنا والغير؛ فهذه البنية التي هي "الغير" تتضمن جزءا قابل للإدراك والاختبار، وكلا غير قابل لذلك. وهذه البنية التي هي "الغير" متغيرة أكثر منها ثابتة مما يضفي على المعرفة طابع النسبية والشك والترجيح على حساب الحقيقة واليقين.
ومن أجل تدعيم هذه الأطروحة اعتمد صاحب النص على بنية حجاجية منطقية وظف فيها القياس والذي يبرزه الاستدلال التالي : إذا كنا لا نستطيع إلا إدراك جزء من بنية الغير، ونحن نعلم أن الجزء لا يفسر أبدا الكل، نستنتج إذن أن معرفة الغير أمر مستحيل، والغاية من هذا التوظيف هي إقامة برهان عقلي ومنطقي لتحديد طبيعة وحدود العلاقة المعرفية بين الأنا والغير، ومن اجل الإقناع بموقفه اعتمد صاحب النص على أسلوب السلطة حين استشهد بحكمة أممية "المجانين وحدهم لا يغيرون" من أجل حث الأنا كذات واعية وعاقلة، على ضرورة تحيين المعارف والمعلومات التي تكونها عن الغير .
المناقشة:
من هنا سنجد أنفسنا أمام موقف فلسفي متميز ومحكم البناء تظهر قيمة أطروحته في تأكيدها على طبيعة البنية المركبة للإنسان، والتي تخضع للعديد من المتغيرات النفسية والاجتماعية والثقافية والبيولوجية... مما يستدعي معه تحيين المعارف، وتجاوز الأحكام النمطية المسبقة عن الغير؛ لكن، إذا كانت بنية الغير هي بنية لظاهرة إنسانية وليست لظاهرة طبيعية فيزيائية، فإلي أي حد يمكن اعتبار عدم قابيلتها للتجزيء شرطا لحصول المعرفة ؟
هنا يمكن استحضار موقف الفيلسوف ماكس شيلر، كجواب لهذا التساؤل المفصلي، وكرد على أطروحة النص، بالقول إن معرفة الغير ممكنة، شريطة النظر إليه بوصفه كلا لا يقبل القسمة؛ فالبنية المعرفية للغير حسب ماكس شيلر هي بنية مركبة من مظهرين: الأول مظهر نفسي داخلي يحمل الحالات الشعورية (الخجل، الألم، الفرح)، والثاني مظهر جسدي خارجي يحمل الحالات التعبيرية (احمرار الوجه، الدموع، الابتسامة)، وهذين المظهرين متداخلين إلى درجة التماهي حيث لا يمكن تمييز التعبير الخارجي عن الحالة النفسية المرتبطة به، كما لا يمكن فصل الحالة النفسية عن التعبير الجسدي الذي يعكسها. من هنا تكون معرفة الغير ممكنة، وهناك جزئية يمكن الرد من خلالها على موقف صاحب النص، وهي أن النص يقبل بفكرة "الإدراك الجزئي لبنية الغير" بينما ـ حسب ماكس شيلرـ الغير كذات إنسانية واعية لا تقبل التجزيء، عكس بنيات الظاهرة الطبيعية الفيزيائية "ما يكون ممكنا بالنسبة للعالم الطبيعي الفيزيائي يصبح مستحيلا للظاهرة التعبيرية الإنسانية" .
التركيب :
خلاصة القول، تبقى معرفة الغير مسألة إشكالية لأنها قضية إنسانية وجودية محضة، وهو ما يعكسه الاختلاف والتباين القائم بين الأطروحتين، فهناك من اقر بالمعيقات التي تطرحها محاولة معرفة الغير وكيف أن هذه المعرفة جزئية ومؤقتة مادام الغير هو كلا مركب خاضع لحتمية التغير والتطور (صاحب النص) . وهنا في المقابل من صرح بإمكانية معرفة الغير شريطة النظر إليه كوحدة كلية لا تقبل القسمة (ماكس شيلر). صراحة، في رائي، سيكون من المجحف الانحياز إلى موقف على حساب الأخر، ذلك أن لكل فيلسوف وجه نظره الخاصة التي عززها ببنية من الأفكار والمفاهيم والحجاج، لكن، عملياَ يمكن الآخذ بالموقفين معا، ومنهجيا يمكن الإبقاء على الإشكال الفلسفي مفتوحا على قضايا وجودية أخرى تحددها نماذج العلاقة مع الغير، فما طبيعة العلاقة الممكنة مع الغير ؟
إرسال تعليق