الفرق بين منهجيات مادة الفلسفة النص # القولة # السؤال
الفرق بين منهجيات مادة الفلسفة ( النص، القولة، السؤال )
النص، القولة والسؤال: منهجية واحدة أم ثلاث منهجيات؟
لعل الكثير من زملائي المدرسين عاينوا بعض التلاميذ، الذين يختارون الإجابة على صيغة السؤال المفتوح، وهم يكتبون:
" يرى صاحب السؤال…."
أو
" يؤكد صاحب السؤال أن …"
أو:
"يتبن من تحليل و مناقشة الموقف المعبر عنه في السؤال أن.."
أو حديث التلميذ عن حجج في قولة تتكون -بالكاد-من عبارة واحدة !!
يعود سبب هذه النقائض التي نعابنها في كتابات التلاميذ إلى عدم التحديد الواضح والدقيق لما تشترك فيه وما تنفرد به كل واحدة من الصيغ الثلاث ، بحيث يبدو كما لو كان التلميذ يعالج صيغة القولة أو السؤا ل المفتوح بنفس المنطق الذي يعالج به صيغة النص للتحليل والمناقشة
لا أنكر وجود مقتضيات منهجية مشتركة بين الضيغ الثلاث، لكنها مقتضيات عامة جدا ولا تنفي خصوصية كل صيغة؛ووجود مثل هذه المقتضيات المشتركة، يسمح لنا بتحديد قواعد مشتركة تخضع لها المقدمة و الخاتمة، بيد أن خصوصية كل صيغة، تجعل العرض خاضعا في كل صيغة لمقتضيات ومنطق خاصين.
وسأعرض في ما يلي المقتضيات العامة المشتركة وخصوصية كل صيغة على حدة، وأختم المقال ببحث قضيتين شائكتين وهما: هل يتضمن السؤال المفتوح أطروحة؟ أي هل يمكننا الحديث أثناء معالجة السؤال عن أطروحة مؤيدة وأخرى معارضة؟ وما مشروعية الحديث عن مناقشة داخلية للقولة؟
المقتضيات المشتركة بين الصيغ الثلاث
سواء اتخد الإنشاء الفلسفي النص او القولةأو السؤال المفتوح موضوعا له، فلا مفر له من أن:
-يتضمن طرحا إشكاليا وبناءا إشكاليا ثم خلاصة
-ضرورة حضور الكفايات الفلسفية الأساسية وهي
– الأشكلة، وخصوصا القدرة على إثارة المفارقات والكشف عن الصعوبات وبناء تقابلات والنقد
-المفهمة : القدرة على تحويل الكلمات إلى مفاهيم ذات دلالة واضحة، أو تعريفها و الحفر في دلالتها وبناء علاقات بين هذه الدلالات من قبيل علاقات التقابل أو التضمن أو التقاطع أوالتفرع…؛
-المحاججة و التي تعني حرص التلميذ على دعم ما يعرضه من أفكار بأدلة وحجج عوض عرضها بشكل دوغمائي؛
– وحدة الموضوع وتنامي الفكرة طوال الإنشاء والحرص على التدرج والانتقال المنطقي السلس من فقرة لأخرى؛
– استدعاء الثقافة الفلسفية المكتسبة والتعامل معها بشكل وظيفي وفق مبدأ الملاءمة بما يشهد على الاستيعاب الجيد، بعيدا عن السردية والحشو والدوغمائية (حجة السلطة)؛
– إقحام الذات في فعل المساءلة و التفكير بشكل صادق، بحيث يظهر الإنشاء كبحث حقيقي فعلي عن حل للإشكال، عوض أن يتعامل التلميذ بقفازات بيضاء مكتفيا بتنظيم حلبة ملاكمة بين الفلاسفة؛
– تطعيم التفكير الفلسفي المجرد والشمولي (بطبيعته) بمعطيات ملموسة وجزئية من الواقع (أمثلة) أو من التجربة الشخصية الذاتية.
خصوصية كل واحدة من الصيغ الثلاث
رغم ما يوجد بين الضيغ الثلاثة من قواسم مشتركة والتي ليست في النهاية سوى المطالب والمقتضيات المشتركة لكل تفكير فلسفي، توجد مطالب خاصة بكل صيغة لا معنى لها إلا بالنسبة لهذه الصيغة أو تلك
1-النص: يتضمن النص أطروحة وحشدا من المفاهيم وعلاقات دلالية ومنطقية تربط بينها أي حجاجا، لذا يمكن الحديث عن مرحلة أولى نسميها التحليل تخصص للاشتغال على المفاهيم والحجاج ومسار تشكل الأطروحة ونمو الفكرة داخل النص..إلخ من أجل فهم النص و بناء معناه لننتهي إلى استيضاح أطروحته وتعيينها بشكل دقيق، ثم الحكم على قيمة هذه الأطروحة، وهي العملية التي نسميها "المناقشة"
2– القولة: مثل النص، تتضمن القولة أطروحة محددة، بيد أن القولة -بخلاف النص-مقيدة اولا بالسؤال المذيل لها والذي يوجه اشتغالنا على القولة، ثم إن الحجاج غائب بسبب قصر حجمها، فينصرف التحليل إلى بناء الحجاج المفترض مما يعني أيضا اضطرار التلميذ إلى توظيف المكتسبات المعرفية أو ما يمسى بـ "المواقف" منذ لحظة التحليل كمعطيات -من بين معطيات أخرى-لبناء هذا الحجاج المفترض وتسويغ ما تذهب إليه القولة أي أطروحتها!!
ثم الحكم على قيمة هذه الأطروحة وهي العملية التي نسميها – كما في صيغة النص- بــ "المناقشة"
وسأعود إلى خصوصيات صيغة القولة في آخر هذه المقالة
3- السؤال المفتوح: لايتضمن السؤال أطروحة (لأسباب سأذكرها بعد قليل)، مما يعني ان مفهوم الأطروحة يصبح عديم المعنى، وكذلك مفهوم "مواقف مؤيدة" و "مواقف معارضة". مؤيدة لأي شيء!؟ ومعارضة لأي شيء!؟ وبسبب غياب الأطروحة يتعذر الحديث عن شيء إسمه التحليل والمناقشة، اللهم لا إذا أفرغنا هاتين الكلمتين من مضمونيهما اللذين حددناهما أثناء حديثنا عن النص والقولة!!
بعبارة أخرى فالسؤال المفتوح يقتضي عمليتبن تفضي إحداهما إلى الأخرى، أو يتم إنجازهما بشكل متداخل، وذلك أثناء الجزء المسمى بالعرض:
أ- الاشتغال على مفاهيم السؤال بهدف:
– إعادة صياغته في أسئلة محددة، والهدف هو تحويل السؤال إلى إشكال فلسفي أو الكشف عن المشكل الفلسفي الثاوي خلف السؤال؛
-استجلاء دلالات المفاهيم الواردة في السؤال و اقتراح علاقات ممكنة بين هذه المفاهيم والتي هي أجوبة ممكنة على الأسئلة المثارة
ب- استعراض هذه الأجوبة الممكنة واحدا بعد الآخر بشكل جدلي أي الحرص على إقامة حوار وجدلية بينها، عوض سردها أو رصفها بجانب بعضها البعض !
(يمكن للبعض أن يجعل المرحلة "أ" مكونا من مكونات المقدمة، فيصبح العرض مقتصرا فقط على "ب").
يتبين إذن أن لكل صيغة خصوصيات تقتضي التمييز بينها منهجيا واستخدام مصطلحات خاصة ملائمة أثناء الحديث عن منهجية كل واحدة منها
خصوصية صيغة السؤال المفتوح: هل تتضمن الأسئلة أطروحة !!
من الناحية الصورية، تختلف الأسئلة المفتوحة باختلاف أدوات الاستفهام التي تستهل بها: هل، لماذا، ماذا يعني، إلى أي حد، من.. إلخ، ولكن لنقتصر هنا على أشهر أداة مستعملة في التقاليد المدرسية المغربية، وهي "هل"
وهي أداة استفهام يطلب بها التصديق إي إثبات خبر لمبتدأ أو محمول لموضوع، ويكون الجواب "بنعم" في الإثبات و "لا" في النفي.
ولكن في جميع الأحوال، فالاستفهام ليس أسلوبا خبريا بل أسلوبا إنشائيا ! فكيف له أن يتضمن اطروحة !!؟
عندما أسأل: متى يصل القطار؟ أو هل زيد موجود؟ فأي أطروحة هنا !!؟ أليست الأطروحة إثباتا وتوكيدا لأمر ما أو لعلاقة أو نسبة بين شيئين !؟ فما ذا يثبت السائل هنا !؟
السؤال لايثبت شيئا اللهم إلا إذا كان سؤالا تقريريا (أي أن تدفع السائل إلى الموافقة والإقرار وهو ضد الإنكار) مثل "أليس الله بأحكم الحاكمين؟"، فهنا السائل يتبني بالفعل اطروحة أي دعوى: "ان الله هو أحكم الحاكمين" ويريد من المجيب أن يقر له بذلك. ولكن هنا يكون الاستفهام قد خرج عن "قوته الحرفية" وأفاد معنى جديدا يقتضيه المقام الحواري التداولي…
لنتأمل سؤالا مثل: هل العدالة هي احترام القوانين؟
"العدالة احترام للقوانين" هذا هو الأمر المستفهم عنه، والسائل لم يثبت النسبة بينهما، بل يسأل عن إثبات أو نفي النسبة أي العلاقة بين العدالة و احترام القوانين
إذا اتفقنا على أن السؤال لا يتضمن أطروحة، فهذا يؤازر ما ورد في ملاحظتي الأولى وهي أنه لا معنى للحديث عن " مواقف مؤيدة " و " مواقف معارضة" أثناء الاشتغال على صيغة السؤال المفتوح.
وعلى كل حال، فمذكرة الأطر المرجعية (رقم 159) تذكر في صفحتها السابعة كمكون أول من مكونات المناقشة في السؤال المفتوح، مايلي:
مناقشة الأطروحة المتضمنة احتمالا في الموضوع
فقد استخدمت أسلوب تخصيص واحتياط وهو كلمة: "احتمالا" كما أنها تحدثت عن أطروحة متضمنة احتمالا في "الموضوع" وليس في "السؤال" ولعلهم يقصدون بذلك الموضوع الإنشائي للتلميذ وليس موضوع السؤال، بدليل أنه لم يرد قبل هذه الجملة أي ذكر لكلمة "موضوع" أو " أطروحة"
بل إن المذكرة واضحة عندما تتحدث في المكون الثاني للمناقشة عن :
" طرح إمكانيات أخرى تفتح أفق التفكير في الإشكال"
مما يعني أنه قد سبق طرح إمكانيات معينة في المرحلة الأولى أي التحليل
بناءا على ما سبق،لا أفهم كيف يقال: إن السؤال يتضمن أطروحة! والبعض يمضي إلى حد القول: يتضمن السؤال أطروحة أو عدة أطروحات !
من المؤكد أن القائل لا يقصد ما يقول! ولكن في اللغة العربية متسع ليصوغ فكره بدقة حتى يقول ما يقصد. لنتأمل العبارة مرة أخرى:
"السؤال يتضمن أطروحة أو عدة أطروحات
أولا كلمة "يتضمن" في اللغة العربية تعني : يحمل أو حامل، ضِمنه، في ثناياه، بداخله… ومنها جاءت -ربما- كلمة "المضمون"
فهل السؤال يحمل في ثناياه أطروحة بهذا المعنى!؟
ثم هل ننسى بأن هؤلاء التلاميذ الذين ندرسهم الفلسفة، سبق لهم أن عرفوا في مادة اللغة العربية مايلي:
– الأساليب نوعان: خبر وإنشاء. الأول يحتمل الصدق والكذب، أما الثاني، فلا. والاستفهام واحد من الأساليب الإنشائية، بمعنى أنه لا يحتمل الصدق أو الكذب لأنه ببساطة لا يتضمن خبرا أي أطروحة
على هذا الأساس، لم لا نقول بكل بساطة:
يستدعي أو يحتمل السؤال جوابا أو عدة أجوبة، ويمثل كل جواب أطروحة فلسفية على المجيب أن يدلل عليها.
طيب. لماذا كل هذا الخلاف اللفظي؟ ولم الحرص من جانبي على دقة التعبير !؟
عندما أقول : "يستدعي"، فهو يستدعي من المجيب ! المجيب هو الذي سيقوم ببناء الجواب أو الأجوبة (تماما كما يقوم في صيغة القولة ببناء الحجاج المفترض، مع فارق مهم وهو أن القولة تتضمن فعلا وتنتصر لأطروحة في حين أن السؤال لا يكون متضمنا أو موحيا بأية أطروحة او جواب
في هذه الحالة لن ينسب المجيب -أي التلميذ- للسؤال أو صاحب السؤال أطروحة.
وأخيرا فإن المجيب لن يعتقد مثلما حدث لتلميذي اليوم الذي يبدو أنه تأثر بالأدبيات الرائجة أكثر مما تأثر بما أقوله، عندما سألني اليوم أثناء إنجاز الفرض المحروس وقد كان عبارة عن سؤال مفتوح:
"لا حاجة للمناقشة الداخلية أثناء الجواب على السؤال، سنكتفي بالمناقشة الخارجية، أليس كذلك يا أستاذ؟!"
فأجبته وأنا بالكاد أكتم غيظي : " ومن طالبك أصلا بهذه أو تلك، ثم إذا كانت داخلية، فداخل ماذا؟ وإذا كانت خارجية فخارج ماذا !؟
أعود للقول بأن:
"يستدعي أو يحتمل السؤال جوابا أو عدة أجوبة، ويمثل كل جواب أطروحة فلسفية على المجيب أن يدلل عليها، يتم عرض هذه الأطروحات واحدة عقب الأخرى بشكل جدلي أي بجعل كل أطروحة تحاور الأخرى، بطرق من طرق الحوار كالنقد أو التجاوز أو التكامل."
وبذلك نتجنب التشويش على عقول التلاميذ بحديث من قبيل: أطروحات متضمنة في السؤال! مواقف مؤيدة وأخرى معارضة! مناقشة داخلية أو خارجية…
خصوصية صيغة القولة المذيلة بسؤال والمطلب الغريب: المناقشة الداخلية للقولة!!
ملاحظة أخيرة، بخصوص القولة: يستحسن ألا نتحدث في صيغة القولة عن "مناقشة داخلية" لأن القولة تقريبا لاداخل لها !! خصوصا وأن المقصود بالمناقشة الداخلية في صيغة النص هي الحكم على وتقييم أفكار النص في ذاتها أي فقط في علاقتها بالحجاج الموظف للتدليل عليها ( قوي، ضعيف، متحيز، انتقائي، تعميم متسرع، مصادرة على المطلوب، سفسطة sophismes ..)،
بمعنى أننا "نحاسب" صاحب النص انطلاقا مما قاله هو نفسه، والحال أن القولة هي أطروحة بدون حجاج (تقريبا)، مما يعني أننا نقوم ببناء الحجاج المفترض ثم نحاكم الأطروحة التي انتهينا قبل قليل من التدليل عليها.
قد يقول قائل: وهل فقدنا عقولنا لكي نعيد بناء الحجاج المفترض وندلل على صحة الأطروحة، ثم نقوم بعد ذلك مباشرة بمحاكمتها وتقييمها وأحيانا نقدها ونقضها !!؟
والجواب هو أن ذلك يدخل ضمن ما يسمى بــ:
-القدرة على وضع الذات موضع الآخر
– القدرة على فهم مببرات الرأي الآخر حتى وإن كنت لا أتبناه
– وأخيرا القدرة على المحاججة بغض النظر عن الدعوى !! (والتي ورثها الفلاسفة عن السوفسطائيين)
هذا ما قادني إليه اجتهادي، وككل اجتهاد، فهو يحتمل الصواب والخطأ، والنقاش وحده من يقرر ذلك
0 تعليقات