أهمية المكون الصوتي في اكتساب اللغة وتعلّمها
بقلم : ذ.عبد الحميد بوزيت
تقديم
يستعمل مصطلح اكتساب اللغة من قبل المختصين في اللسانيات التطبيقية للدلالة على اكتساب الإنسان للغته الأم، بينما يتم اعتماد مصطلح تعلم اللغة للتعبير عن تعلم الإنسان للغة أخرى بالإضافة إلى لغته الأم ، فالمصطلح الأول إذن، يفيد معنى التملك النسبي للمهارات اللغوية التي تخص اللغة الأم للإنسان، بينما يفيد المصطلح الثاني معنى التغيّر الذي يحدث في سلوك الإنسان اتجاه لغة ثانية باشر تعلمها، أي اتخذها موضوعا للتعلم أو التعليم. إنّنا نكتسب لغتنا الأم في سياقها الطبيعي بينما نتعلم اللغات الأجنبية في سياقات تعلمية تعليمية مختلفة.
ولقد تعددت النظريات والمقاربات التي اتخذت من اكتساب اللغة وتعلمها موضوعا للبحث والدراسة، فاختلفت نتائجها باختلاف خلفياتها الفكرية والمنهجية، ومن أبرز النظريات التي خاضت في موضوع اكتساب اللغة وتعلمها نذكر : النظرية السلوكية والنظرية التوليدية، وقبل أن نعرض لهذين التصورين سنورد موقف علم من أعلام الثقافة العربية-الإسلامية وهو موقف العلامة عبد الرحمن بن خلدون.
أ. اللغة ملكة صناعية:
لم يكن مصطلح اكتساب اللغة بلفظه واردا عند ابن خلدون في معقل حديثه عن اللسان العربي وإحصاء أنواعه وروافده وثماره المختلفة وطرق تعليمه وتعلمه، وإنّما اكتفى بإيراد مصطلح التعلم وهو يميز بينه وبين مصطلح الاكتساب ضمنيا، إذ يرى أنّ هنالك علاقة وطيدة بين اللغة المكتسبة واللغة المتعلّمة وحجتنا في ذلك قوله » المتكلّم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبيّ استعمال المفردات في معانيها فيلقنها، يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كلّ متكلم واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال« .
فلمّا كانت اللغة ملكة صناعية كان تعلّمها ممكنا حسب ابن خلدون، ومن خصائص هذه الملكة أنّها غير راسخة وذلك من خلال قوله « والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة». ويتطلب ترسيخ هذه الملكات التكرار والمداومة وحفظ أشعار العرب ومتونهم ومعاشرتهم وسماعها منهم، فالإنسان الذي يطمح إلى التمكن من اللغة العربية يتعين عليه أن يقصد معقل العربية في مضر وتميم وغيرها من القبائل التي يستشهد بفصاحتها آنذاك. ولقد سمّى ابن خلدون فترة حصول ملكة البلاغة في اللسان بالذوق، والذي يحصل للعربي الذي أخذ العربية من أهلها فأصبح قادرا على الحكم على التراكيب والعبارات والمفردات بانتمائها للعربية أو خرقها لقواعدها .
هكذا إذن، يكون ابن خلدون قد حدد لاكتساب اللغة العربية على وجه مخصوص واللغات بشكل عام معايير عديدة منطلقا من ضرورة سماعها عند أهلها، لكن لمّا فطن ابن خلدون إلى أنّ العربية فسدت بمخالطة العجم ودخلها اللحن دعا إلى ضرورة حفظ كلام العرب الفصيح باعتباره طريقة فعّالة لاكتساب ملكة اللغة العربية، ذلك أنّ من حفظ كلام العرب منظومه ومنثوره وكلامهم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث يصير قادرا على أن يتكلّم العربية كأهلها ويكتب بها على طريقتهم، غير أنّ ابن خلدون لم يكتف بالتأكيد على ضرورة الحفظ بل وسع من دائرة اكتساب اللغة ودعا إلى ضرورة فهم المحفوظ واختيار المنتخبات الجيدة، كما شدد على ضرورة استعمال اللغة لتترسخ أكثر فأكثر. ومن هنا تبرز لنا أهمية المكون الصوتي، إذ يستحيل استعمال العلامات اللسانية،في هذه الفترة التاريخية على الأقل، دون توظيفه علاوة على أنّ المرء لن يتأتى له سماع اللغة من أهلها ما لم يتكلموا، والكلام نتاج لتواشج العديد من الوسائط النفسية والعضوية والذهنية.
ب. اللغة سلوك إنساني مكتسب :
تطمح النظرية السلوكية إلى إعطاء السلوك الإنساني الظاهر معنى، إذ بدأت أول الأمر بالتشكيك في المصطلحات الذهنية مثل : العقل والتصوّر والفكرة، لذلك نجد أنّ السلوكية قد ركزت على ما يمكن ملاحظته من اللغة عندما تم نقل اهتمامها إلى الدراسات اللغوية، فلمّا كانت اللغة سلوكا تطلب الأمر معرفة المثيرات التي تستدعي الاستجابات،إذ تتضح وظيفة الكلمات في دعوة الاستجابات، تماما كما تفعل الأشياء التي تقوم مقامها. ومبدأ السلوكيين هذا لا يختلف كثيرا عن موقف سكينر في كتابه السلوك اللفظي الذي يرى بدوره أنّ اللغة نمط من أشكال السلوك العامة، وتلعب فيها المثيرات اللفظية والبيولوجية دور المثير لاستجابات لفظية مختلفة، وتتميز هذه الاستجابات اللفظية بكونها » تقود إلى بعض الحقائق، ويؤدي التعزيز الوحيد أو التعزيزات المختلفة إلى أن تفضي في بعض الحالات إلى استجابات مختلفة (...) كما تعزز بعض الاستجابات اللفظية المختلفة بطرق مختلفة، باختلاف السامعين أو دُنو حالاتهم المختلفة«. كما تكتسب هذه الاستجابات انطلاقا من التواصل اللفظي، ومَثل سكينر لذلك في كتابه هذا بالطفل الذي يسمع كلمة »لا « والتي تفيد معنى الحظ على الامتناع بالقيام بالشيء، فيمتنع عن الفعل مستجيبا للكلمة المثيرة.
بهذا تكون النظرية السلوكية قد حاولت البرهنة على موقفها من اكتساب الإنسان للغة؛ أي باعتبارها سلوكا مكتسبا، فالأطفال يلجؤون إلى نوع من المحاكاة لاكتساب سلوكاتهم اللغوية. وما كان هذا ليحدث دون وجود قدرة فونولوجية لدى المتكلمين داخل السياق الذي نشأ فيه الطفل وما كان الإنجاز ليحدث دون توافر الطفل على مؤهلات عضوية وذهنية ونفسية معيّنة، من هنا تظهر لنا مكانة المكون الصوتي في هذه النظرية، إذ يمكن اعتباره مكونا مركزيا بين الطفل والوسط الذي نشأ فيه على ضوء هذه النظرية، ولقد لقي موقف السلوكيين هذا معارضة من قبل العديد من الباحثين أسهمت في ظهور نظريات أخرى كالنظريتين المعرفية والتوليدية، ولنبرز أهمية المكون الصوتي في اكتساب اللغة ارتأينا إلى اختيار التصوّر التوليدي، وذلك لتركيزه ،بصورة أدق، على المكون الصوتي للغة، والذي عدّه مكونا رئيسيا من مكونات النحو التوليدي منذ ظهوره خلال خمسينيات القرن العشرين.
ت. اللغة ملكة فطرية :
تتركب الإشكالية العامة في اللسانيات التوليدية من نسق من الافتراضات التي سعى من ورائها ناوم شومسكي،أبرز رموز التوليدية في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، إلى محاولة إدراج اللغة في العلوم الطبيعية، وذلك بدراسة اللغة الإنسانية من وجهة نظر علمية دقيقة كما تدرس باقي الظواهر الطبيعية، لذلك نجد أنّ طرح التوليديين بخصوص اكتساب اللغة ركز على الجانب العضوي المتحكم في اكتساب اللغة ويتعلّق الأمر بالملكة اللغوية التي يعتبرها شومسكي جزءا من الدماغ الإنساني ينفرد بها الكائن البشري، علاوة على اعتبارها »خاصية نوعية تختلف قليلا فيما بين البشر « لذلك نجد أنّ الإنسان مؤهل فطريا لاكتساب اللغة شريطة سلامة جهازه الصوتي والسمعي : أي قدرته على سماع أصوات اللغة وإنجازها. وهو بذلك مختلف كثيرا عن أنواع عديدة من الحيوانات حتى أقربها إليه من الناحية الجينية؛ أي القرد الذي لا يقوى على اكتساب الأصول الأكثر تبسيطا للغة.
يبدأ الطفل أول ما يبدأ بمحاكاة بعض الأصوات ثم المقاطع والكلمات وصولا إلى تركيب الجمل والعبارات الأقل تعقيدا إلى الأعقد منها بالاستناد إلى جهاز اكتساب اللغة من جهة وصيرورة الخبرة التي تتيحها المجتمعات الإنسانية المتكلمة من جهة أخرى، ومن الملاحظ أنّ هذه الفترة تتسم بتشكل النحو الخاص للغة الأم الخاصة بجماعة لغوية معيّنة في ظرفية فجائية لا يمكن لأحد التصريح بأنّه من علّمه كيفية القيام بذلك؛ أي تعليمه كيف ينطلق من عدد محدود من الأصوات والقواعد لإنتاج عدد غير متناهي من الجمل. ولقد جاءت النظرية التوليدية لتفسّر هذا الأمر وتقدّم تصورا لهذا النحو الخاص الذي هو في الأصل،حسب شومسكي، نتاج لتخصيص ملكة اللغة والانتقال من نحو كلّي إلى نحو خاص، ولقدأكد شومسكي،منذ البداية، على ضرورة بلورة أنحاء تحويلية تفسّر بنية اللغة والعلاقة بين مكوناتها، ومن العناصر الأساسية التي لم يستغن عنها شومسكي في عرضه للطريقة التي تنقل فيها اللغة من بنيتها العميقة إلى بنيتها السطحية نجد المكون الصوتي الذي سننطلق من نموذجي (1965) و(1967) لنبيّن موقع المكون الصوتي وأهميته في إنجاز المتكلمين للغة في الشق المرتبط بأهمية المكون الصوتي في إنجاز اللغة.
فالبرنامج التوليدي يصورن النحو معتبرا إياه آلة لتوليد الجمل وتتمثل أهمية المكون الصوتي في إعطاء البنيات التركيبية تمثيلا صوتيا على المستوى السطحي، وقبل إنجاز اللغة فالإنسان يحتاج إلى جانب ملكته اللغوية سياقا اجتماعيا يزوّده ببنيات لغوية خاصة بلغة معيّة يبني على أساسها نحو لغته الخاص .ويمكن التمثيل لهذه العملية على الشكل الآتي :
الملكة اللغوية صيرورة الخبرة النحو الخاص متتاليات صوتية لا متناهية.
فالإنسان قادر على اكتساب اللغة واستعمالها بفضل ملكته اللغوية واحتكاكه بالمجتمع الذي يزوّده ببنيات لغوية على شكل متتاليات صوتية ينمو بواسطتها نحوه الخاص لإنتاج عدد لا محدود من المتتاليات الصوتية باعتباره متكلما مستمعا مثاليا قادرا على أن ينتج جملا تنتمي إلى لغته وقادرا على أن يحكم على بنية لغوية ما فيما إذا كانت تنتمي إلى لغته أو لا تنتمي إليها.
خلاصة القول إنّ استعمال اللغة يتيح للإنسان إمكانية اكتساب لغته الأم في سياقات طبيعية، إذ يحاكي الطفل أول ما يحاكي الأصوات الخاصة بلغته ثم ينطلق بعد ذلك إلى نطق المقاطع والكلمات وصولا إلى تركيب الجمل والعبارات الأقل تعقيدا إلى الأعقد منها بالاستناد إلى جهاز اكتساب اللغة المسمى ملكة لغوية من جهة وصيرورة الخبرة التي تتيحها المجتمعات الإنسانية المتكلمة وما كان هذا ليتم بدون وجود جهاز صوتي، فالإنسان يمتلك جهازا صوتيا تتداخل عدة مكونات في تشكيله، ويتمكن بموجبه من النطق الذي مكنه من أن يصير كائنا اجتماعيا يتواصل مع غيره من بني البشر.
لائحة المراجع والمصادر:
. ابن خلدون، عبد الرحمن: المقدّمة، دار الفكر للطباعة والنشر، ت خليل شحادة، بيروت، 2010.
.خرما، نايف: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978.
.شومسكي، ناوم: اللغة ومشكلات المعرفة، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990.
. مختار عمر، أحمد: علم الدلالة، عالم الكتب، ط5، مصر، 1998.
.Chomsky, naom 1957 : syntactic structure, the hague, paris.
.)N,CH)1965: Aspects of theory of syntax, Mit Press, Cambridge Mass
. Skinner, B.F 1957 : verbal behavior.ny.appleton-century crofts.
0 تعليقات