القراءة المدرسية للنصوص وطبيعة نشاط القارئ-المتعلم
==============================
بقلم : محمد البرهمي
أولا: من نظرية القراءة إلى بيداغوجية القراءة.
من بين الاختلافات الملاحظة بين جمهور الدارسين والمدرسين في مفهوم قراءة النصوص ودور القارئ في فهمها واستيعابها، أن البعض يعتقد أن المعنى يوجد في مكان ما من النص وما على القارئ إلا أن يكتشفه، في حين يرى البعض الآخر أن القراءة بناء المعنى من طرف قارئ يستجيب بصورة أفضل لإغراءات البنيات النصية. والملاحظ أن منهاج اللغة العربية بالتعليم الثانوي أخذ بهذا المفهوم الثاني واعتمده فيما اصطلح عليه "بالقراءة المنهجية" التي تنطلق خطواتها من الإدراك العام والكلي للنص ووضع فرضيات لقراءته، ثم القيام بعمليات فكرية لفحص فرضيات هذه القراءة. وقد اعتبر المنهاج القارئ-المتعلم عنصرا فاعلا في القراءة لأنه "لا يستقبل النص بذهن فارغ، بل بذهن مزود بشبكة للقراءة تمكنه من وضع فرضياته الخاصة التي هي نتاج خبراته وتجاربه ومكتسباته" (منهاج اللغة العربية، 1996، ص21). غير أن هذا المبدأ لا يطبق بصورة عملية في أقسامنا، كما أنه يضايق الكثير من المدرسين لاعتقادهم أن المتعلم الحالي غير مؤهل معرفيا ومنهجيا ولغويا ليعول عليه في بناء المعنى انطلاقا من نصوص أدبية -تراثية كانت أو حداثية- ولتخوفهم من أن تصبح هذه النصوص مطية لتأويلات قاصرة وغير مقنعة.
والواقع أن أمر القراءة المدرسية للنصوص بالتعليم الثانوي ودور القارئ-المتعلم فيها بحاجة إلى توضيح. وأول ما ينبغي الإشارة إليه هو الفرق الواضح بين القراءة العلمية المتخصصة وبين القراءة المدرسية التعليمية. فإذا كانت النظريات النقدية الحديثة تميز بين ثلاثة أنواع من بلاغة القراءة هي: بلاغة النص وبلاغة القراءة المتخصصة وبلاغة القارئ العادي، دون تعيين هذا القارئ، فإن هذا التمييز لا ينسحب على واقع القراءة المدرسية لأن العلاقة بين النص المقروء والقارئ المتعلم تتم عبر وسيط هو المدرس، الأمر الذي يستدعي تصنيفا آخر لأنواع بلاغة القراءة، هو:
أ ـ بلاغة النص القرائي
ب ـ بلاغة القارئ الناقد المتخصص
ج ـ بلاغة القارئ-المدرس
د ـ بلاغة القارئ-المتعلم.
ومعلوم أن طبيعة التلقي عند المتعلم تختلف عما هي عليه لدى المدرس بسبب الاختلاف في التكوين والسن والثقافة والدور الاجتماعي وتمثلات التعليم والتعلم الخ…
ونشير إلى أن أمر القراءة المدرسية للنصوص الأدبية يختلط بالقراءة المتخصصة لدى الكثير من المدرسين والدارسين، على الرغم من إدراكهم الفوارق القائمة بين القراءتين. ويلاحظ هذا الخلط في اعتمادهم مقولات نظرية القراءة ومفاهيمها أثناء حديثهم عن التلقي البيداغوجي. ويعود سبب هذا الخلط إلى أن نظرية القراءة عالجت مشكلة التلقي الأدبي من زاويتين لهما نظير في التلقي البيداغوجي:
الأولى: تهتم بالكيفية التي يقرأ بها النص.
الثانية: تهتم بما يقرأ فيه أو ما يمكن قراءته فيه.
وقد انشغلت بهاتين الزاويتين اتجاهات أدبية ونقدية مختلفة: كجمالية التلقي "لهانس روبير ياوس" H.R.Jauss، ونظرية القارئ الضمني "لآيزر" W.Iser والمقاربة السيميائية لأمبرطو إيكو E.ECO، والأبحاث السيميولوجية لكل من فيليب هامون Ph.Hamon وأوطن M.Otten. ولم ينتبه الباحثون في بيداغوجية تلقي النص الأدبي إلى المآخذ التي أخذت على هذه الاتجاهات الأدبية مثل:
أ ـ اقتصارها على دراسة قراءات نظرية منجزة من طرف قراء مجردين.
ب ـ أنها على اختلاف منطلقاتها انتهت إلى الخلط بين القارئ الذي يشكله أصحابها والقارئ الحقيقي الذي تسعى إلى وصفه وتفسيره.
ونتيجة لهذه الانتقادات نشأت ضمن نظرية القراءة مقاربة جديدة ركزت اهتمامها على القارئ الواقعي، مثل ما هو وارد في كتابي بيكار M.Picard: القراءة كلعب La lecture comme jeu (1986) والقراءة والزمن (1989) Lire et le temps. وفيهما اعتبرت القراءة الملموسة الصادرة عن القارئ الواقعي هي الصالحة للدراسة، لأن هذا القارئ –على خلاف القارئ المجرد عند كل من آيزر وإيكو- يفهم النص بوساطة ذكائه ورغباته وثقافته وفي ظل شروط اجتماعية وتاريخية ونفسية معينة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا كان تحقيق concrétisation النصوص الأدبية لا يتم إلا من خلال فعل القراءة فهل من سبيل إلى فهم ووصف الفعل القرائي المدرسي؟ وكيف نجعل من القارئ المتعلم موضوعا للدراسة الملموسة والموضوعية؟
ثانيا: مكونات الفعل القرائي المدرسي.
يجمع الباحثون البيداغوجيون اليوم على أن قراءة النصوص عملية تتفاعل فيها أطراف ثلاثة: القارئ والنص والسياق.
يعرف القارئ ببنياته المعرفية واستعداده ومواقفه التي تكون وراء نشاطه القرائي. وسنعود إلى ذلك فيما سيتلو.
ويراد بالنص المادة المقروءة التي تتضمن ثلاثة عناصر أساسية هي: أ) بنية النص، ب) محتواه، ج) مقصديته.
تحيل البنية على الطريقة التي ينظم بها النص، في حين يحيل المحتوى على عناصر النص ومفاهيمه ولغته. أما المقصدية فتحدد اتجاه العنصرين السابقين. فقد يستهدف النص الإمتاع أو الإقناع أو الإخبار الخ… فيتوسل بهذا البناء النصي أو ذاك إلى تحقيق هدفه.
ويحتوي السياق على عناصر لا تشكل جزءا عضويا من النص ولا ترتبط مباشرة ببنيات القارئ أو عملياته، ولكنها تؤثر في فهمه، كالسياق الاجتماعي (تدخلات المدرس أو من يقوم مقامها…) والسياق الطبيعي المادي (فضاء القسم وأثاثه –هيئة القارئ المتعلم أثناء القراءة: الوقوف أو الجلوس- ردود أفعال التلاميذ أثناء القراءة: الانضباط أو عدمه…).
يتنوع فهم المقروء بحسب درجة العلاقة القائمة بين هذه المتغيرات الثلاثة (القارئ والنص والسياق). فكلما كانت العلاقة بينها قوية كان الفهم ميسرا. ويمثل عادة للصعوبات التي يواجهها القارئ المتعلم في فهم النص بالوضعيات التالية:
*الوضعية الأولى يكون فيها النص ملائما للمستوى الإدراكي للقارئ المتعلم، ولكن القراءة تنجز في سياق غير ملائم. كأن يقرأ أول مرة قراءة جهرية همزية أبي القاسم الشابي في فصل فيه جلبة وضوضاء، لا يسمح له بتمثل هذه القصيدة التي مطلعها:
سَأعِيشُ رغْمَ الدَّاءِ والأعدَاءِ كالنسْرِ فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
*الوضعية الثانية يكون فيها سياق القراءة مساعدا على تحقيق تمثل أفضل للنص المقروء، غير أن ذلك لا يكون ميسرا بسبب بنية النص أو محتواه، أو هما معا، البعيدين عن المستوى الإداركي للقارئ المتعلم، كأن يقرأ قصيدة أبي تمام الرائية أول مرة قراءة صامتة في فصل منضبط، والقصيدة من أصعب شعر أبي تمام المعروف بصعوبة تركيبه وبتعقيده إلى حد التصنع، كما يشهد على ذلك مطلعها:
رَقَّتْ حَوَاشِي الدَّهْرِ فَهْيَ تَمَرْمَرُ وَغَدَا الثَّرَى في حَلْيِهِ يَتَكَسَّرُ
*الوضعية الثالثة تكون فيها العلاقة بين القارئ والنص والسياق ضعيفة، كأن يكون النص صعبا وسياق التعليم غير ملائم لقراءته.
ثالثا: طبيعة نشاط القارئ-المتعلم.
يشكل القارئ بالتأكيد المتغير الأكثر تعقيدا في النشاط القرائي. وينهض هذا النشاط على بنيات معرفية ووجدانية، بالإضافة إلى عمليات ذهنية مختلفة. والترسيمة التالية توضح مختلف الأنشطة التي يقوم بها القارئ:
1 ـ بنيات القارئ:
البنيات هي الخصائص التي تميز القارئ في استقلال تام عن سياق القراءة. وتنقسم إلى قسمين: بنيات معرفية وبنيات وجدانية.
تحيل البنيات المعرفية على المعرفة اللغوية التي يمتلكها القارئ وعلى معرفته العالم المحيط به (الطبيعي والثقافي، الكوني والمحلي). وتلعب المعرفة اللغوية دورا كبيرا في فهم المقروء. وهناك أربعة مستويات لغوية ينبغي للقارئ المتعلم أن يطورها في وسطه المدرسي إذا أراد خلق جسور اتصال بينه وبين النصوص القرائية المقررة، وهذه المستويات هي:
أ ـ صوتية: تتعلق بنظام الأصوات في لغته كالجهر والهمس والترقيق والتفخيم، والنبر والتنغيم الخ… ويعتبر هذا المستوى معطى لغويا يستثمر في فهم النص الأدبي ودراسته.
ب ـ تركيبية: تتعلق بنظام الكلمات في الجملة العربية لتمييز التراكيب المقبولة نحويا والتراكيب غير المقبولة…
ج ـ دلالية: تتعلق بمعاني الكلمات والعلاقات الدلالية القائمة بينها لمعرفة المصاحبات اللغوية الدالة دلالة مفيدة والمصاحبات اللغوية غير الدالة.
د ـ تداولية: تتعلق بمعرفة متى يستعمل هذا التركيب أو ذلك، كمعرفة مواضع الفصل والوصل، والذكر والحذف، والإيجاز والإطناب، والتقديم والتأخير الخ…
وتشكل معرفة المحيط العام عنصرا مهما في فهم النصوص المقروءة، فمن الصعب على المتعلم أن يفهم ما يقرأ إذا لم يتمكن من ربطه بعالمه الوجودي لأنه بدون هذه المعرفة لا يعد النص المقروء صعبا على الفهم فقط، بل يكون فارغا من أية دلالة. ولذا يعمد القارئ إلى وضع القنطرة التي تصل بين المعنى الجديد (أي ما يحمله النص) والمعنى القديم (أي ما تحمله الذاكرة من معرفة سابقة). ولقد دلت التجارب على أن التلاميذ الذين تتوافر لديهم معرفة مفهومية متنوعة (أدبية وعلمية وتاريخية وجغرافية وفنية الخ…) أقدر من غيرهم على فهم المقروء، وأقدر على تنشيط خطاطاتهم الذهنية، أي أقدر على تخزين المعرفة المحصلة وعلى استرجاعها وقت الحاجة أو تغييرها حين يقتضي الأمر ذلك.
أما البنيات الوجدانية، فالمراد بها مواقف القارئ واهتماماته التي تعمل على شحذ طاقاته النفسية تعبئتها حتى تكون قادرة على التحصيل والتحمل والتنظيم والمبادرة الخ… وحتى تتجاوز الصعوبات الذاتية (مثل الملل والفتور والإعراض عن القراءة بسبب الضحالة المعرفية…) أو الصعوبات الموضوعية التي تفرضها الظروف المحيطة. والعادة جرت على أن المتعلم يكون ميالا إلى القراءة أو معرضا عنها تبعا للوسط الذي يعيش فيه. وهذا الميل أو عدمه يؤثر في موقفه من القراءة المدرسية.
2 – عمليات القراءة:
تحيل عمليات القراءة على الكيفية التي تشغل بها المهارات الضرورية لقراءة النصوص. وهذه العمليات على اختلاف مستوياتها ليست متسلسلة ولكنها متداخلة ومتزامنة، ومنها العمليات التي تستهدف فهم عناصر الجمل أو الربط بين مختلف الجمل أو إدراك البناء العام للنص ومحتواه لصياغة فرضيات القراءة وربط عناصر النص بالمعرفة السالفة الخ… كما هو مبين في الترسيمة التالية:
عمليات القراءة
عمليات المعرفة الشارحة عمليات الإعداد العمليات الكبرى عمليات الإدماج العمليات الصغرى
ـالوعي بصعوبات الفهم وعوائقه
ـ معرفة وسائل تجاوز هذه الصعوبات ـ التوقع
ـ التصور الذهني
ـ الاستجابة العاطفية
ـ البرهنة
ـ المعرفة السابقة
ـ تعرف البنية الكلية
ـ تعرف الفوقية ـ الوصل المباشر (بالضمائر والأدوات.)
ـ الوصل غير المباشر (بالاستدلال) تعرف لألفاظ
ـ تعرف الجمل
ـالانتقاء الجزئي
2-1-العمليات الصغرى microprocessus: تستخدم لفهم المعلومة التي تحتويها الجملة وذلك بالتعرف أولا على الكلمات مفردة فتجميع عناصرها الدالة لإدراك المعنى الذي تتضمنه مجتمعة، وينبغي أن يتعرف عليها بصورة آلية وتلقائية حفاظا على قدرات القارئ وطاقاته حتى يتمكن من استغلالها في بقية العمليات العليا المعقدة. ولكن هذه التلقائية في القراءة تعترضها بالتعليم العام مشكلات تتمثل في صعوبة التعرف على معجم النص المقروء. فما السبب في ذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نشير إلى أن جزءا كبيرا من المعجم المكتسب في التعليم الأساسي والثانوي مصدره النصوص القرائية المدرسية، أما النصوص غير المدرسية التي هي موضوع المطالعة الحرة فيكاد يكون دورها ضئيلا في اكتساب اللغة لدى التلاميذ. ومعلوم أن المطالعة الحرة تعتبر العامل الحاسم في سرعة اكتساب المعجم والارتقاء به، كما تعتبر العامل المفسر للفوارق اللغوية الحاصلة بين التلاميذ، لهذا يتعرف البعض منهم دون الآخر على كلمات النص القرائي لأنهم صادفوها في نصوص متعددة وفي سياقات نصية مختلفة. فألموا بظلالها الدلالية، ولا ينبغي أن يفهم مما سبق أن القراءة تقوم على إدراك الألفاظ معزولة عن سياقها النصي، بل المراد التأكيد على أن جانبا كبيرا من فهم النصوص متوقف على فهم ألفاظها وتراكيبها.
لكن كيف يتأتى للتراكيب المساهمة في فهمها؟
لتفسير ذلك ينبغي الاعتراف بالدور الكبير الذي تقوم به الذاكرة في تنظيم المعلومات وتخزينها واسترجاعها. كما أن هذه الذاكرة تعمل وفق مدى زمني معين بحيث تختزن المعلومات وفق الأسلوب الذي يناسبها. وقد ميزت الدراسات النفسية المهتمة بمعالجة المعلومات بين نوعين من أنواع الذاكرة: الذاكرة القصيرة المدى والذاكرة الطويلة المدى، ولاحظت أن الطاقة الاستيعابية للذاكرة القصيرة المدى محدودة، لا تعالج أكثر من أربعة عناصر أو خمسة ولمدة زمنية قصيرة، ثم تنقل هذه العناصر إلى الذاكرة الطويلة المدى لتخزينها، ويمكن أن تكون هذه العناصر المعالجة تراكيب أو جملا. لهذا فالقارئ الذي يجد صعوبة في فهم ألفاظ هذه التراكيب لا يجد في ذاكرته سوى بضع كلمات، مما يحول دون فهم المعلومة الواردة في هذه التراكيب. وعلى العكس من ذلك القارئ الذي تتسع ذاكرته للمعجم المقروء (5 تراكيب مثلا، كل تركيب يتكون من 4 كلمات = 20 كلمة) فإنه يتوقف في معالجة المعلومة الواردة فيه بوساطة استراتيجية قائمة على الانتقاء والعزل؛ أي انتقاء جزء من المعلومة الواردة في الجملة السابقة والاحتفاظ بها في الذاكرة القصيرة المدى لإلحاقها بالجزء الثاني من المعلومة التي تحملها الجملة اللاحقة إلى أن يتم استخلاص هذه المعلومة وعزلها بأتمها من الجمل المقروءة.
2-2-عمليات الإدماج Processus d'intégration وظيفتها التعرف على ما يصل الجملة بغيرها. ومعلوم أن هذا الوصل هو الذي يحقق للنص تماسكه التركيبي، ويكون الوصل إما صريحا (كالوصل بالضمائر والأدوات…) وإما ضمنيا (كالوصل بالاستدلال). والوصل بالضمير في اللغة العربية –حسب الدكتور تمام حسان- ثلاثة أقسام:
أ ـ وصل بضمائر الشخص (أنا وفروعه…)
ب ـ وصل بضمائر الإشارة (هذا وفروعه…)
ج ـ وصل بضمائر الموصول (الذي وفروعه…).
وتفتقر هذه الضمائر جميعا إلى القرائن باعتبارها شرطا أساسيا لدلالتها على معين. فضمير المتكلم والمخاطب والإشارة قرينتها الحضور، وأما ضمير الغائب فقرينته المرجع المتقدم إما لفظا وإما رتبة وإما هما معا، وأما ضمير الموصول فقرينته جملة الصلة التي تشرح المقصود به وترتبط به بوساطة ضمير يعود عليه.
والوصل بالأدوات قسمان:
أ ـ وصل بأدوات أصلية كأدوات العطف
ب ـ وصل بأدوات محولة كأدوات الشرط.
وهذه الأدوات هي المسؤولة عن الفهم الحرفي للنص، أي الفهم النحوي والتركيبي.
أما الوصل بالاستدلال فهو وصل غير مباشر لا يعتمد أداة أو ضميرا وإنما يبنى على معرفة القارئ للنحو والبلاغة والمنطق والتداول، كالاستدلال مثلا على أن:
أ ـ بين الجملتين اتحادا تاما، وذلك بأن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى أو بيانا لها أو بدلا منها…
ب ـ الجملة الثانية جواب عن سؤال يفهم من الجملة الأولى، الخ…
وكل جهل بدور الوصل المباشر وغير المباشر في تماسك الجمل وتلاحمها دون تحقيق عمليات القراءة الباقية.
2-3-العمليات الكبرى macroprocessus: ووظيفتها نشدان الفهم الشامل للنص، وإدراك العلاقات القائمة بين عناصره التي تجعل منه كلا منسجما، ولن يتم ذلك إلا بالتعرف على بنيتيه الكلية والفوقية.
والمراد بالبنية الكلية macrostructure المعنى الشامل المستخلص من مجموع الجمل الواردة في النص، التي تتسم بدرجة قصوى من التماسك. أما قواعد الوصول إلى هذه البنية فتتمثل حسب "فان ديجك" T.Van Dijk في ثلاث عمليات: الاختيار والتعميم والبناء. والقراء عادة ما يلمون عناصر هذه البنية في جملة، غير أن هذا اللم لا يسلم من عيوب تحيد به عن الفهم السليم والمقبول، لأن الغالبية العظمى من التلاميذ لم يتعلموا كيفية اختيار الجملة التي هي شرط في فهم وتأويل النص، أو تعميم الجملة التي تحتوي غيرها وتشملها، أو تلخيص النص في جملة أو أكثر تستخلص من باقي الجمل الأخرى.
وتختص البنية الفوقية superstructure بالتمفصل الداخلي للنص، وفي هذا المستوى من التحليل يمكن الحديث عن أشكال وأنواع نصية (كالنص السردي والوصفي والحجاجي…) أو خطاطات نصية (كالخطاطة السردية والوصفية والحجاجية…). ولهذه الخطاطات استقلال تام عن محتوى النص (أي البنية الكلية). فالبنية الفوقية "قواعد" عامة يحتكم إليها في وصف بنية النصوص. "ولقد قادت المقاربة المعرفية للنصوص كثيرا من الدارسين إلى تحليل آليات التلقي والإنتاج لدى التلاميذ بقياس مدى تملكهم لهذه الخطاطات النصية النموذجية باعتبارها تمثلات تأخذ في التشكل التدريجي لديهم خلال مراحل نموهم المختلفة، وهي تمثلات تهم خصائص البنيات الفوقية للنصوص. فظهر من هذه الدراسات الدور الذي تلعبه هذه الخطاطات في تخزين المعلومات المعالجة. وفي عملية البحث عنها بواسطة استراتيجية الاستباق والتوقع، كما ظهر أن الصعوبات التي يواجهها المتعلم في فهم النصوص الأدبية تعود في جانب كبير منها إلى عدم تملكه هذه الخطاطات النصية النموذجية، وإلى افتقاره إلى القدرة على بناء تمثل منظم ومتراتب لمعنى النص الأمر الذي يعكس الأهمية البالغة للخطاطات النصية النموذجية ما دامت هي المتحكمة في بناء هذا التمثل".
2-4-عمليات الإعداد processus d'élaboration: تسمح هذه العمليات للقارئ بتجاوز النص والاستدلال على القراءة بنتائج لم تخطر ببال المؤلف كالحكم على النص بالاتساق cohésion والانسجام cohérence أو بعدمهما، وكإضافة معلومات أخرى يقتضيها فهم النص أو إيجاد علاقات جديدة بين عناصره الخ… ولتحقيق ذلك يتوسل القارئ بمجموعة من العمليات كالتوقع والتصور الذهني والاستجابة العاطفية والبرهنة واستخدام المعرفة السابقة. على أن كل قارئ يستعمل هذه العمليات بطريقته الخاصة.
والمراد بالتوقع ما يفترض القارئ وجوده في النص ويتنبأ به من أفكار وأحداث الخ… انطلاقا من المؤشرات المرصودة في محتوى النص وبنيته.
أما التصور الذهني فيحول المقروء إلى صور ذهنية، ويقدر الذاكرة على جمع التفاصيل الجزئية المنتشرة في نسيج النص في مجموعات كبيرة، كما يستعمل وسيلة للاحتفاظ بالمعلومات والرفع من درجة الاهتمام بالمقروء والانتشاء به.
وتلعب الاستجابة العاطفية دورا كبيرا في تأويل المقروء، وخاصة النصوص السردية القصصية بسبب التماهي مع الشخصيات والانغماس في الأحداث.
ويقصد بالبرهنة استخدام مختلف المهارات القرائية كالتحليل والتطبيق والتقويم والتركيب وهي تستهدف معالجة النص وإبداء الراي فيه.
وللقراءات السابقة دور كبير في الفهم وفي تشكيل ذاكرة القارئ: فمن المعلوم أنه تعقد في ذاكرة كل قارئ مقارنة بين النص المقروء والنصوص التي سبقت قراءتها. فهناك حوارية dialogique وتداخلات نصية intertextualité –بالمعنى الباختيني- في ممارساتنا القرائية. لهذا نقوم باستخدام معارفنا السابقة في فهم المقروء.
لكن الملاحظ أن التلاميذ لا يحسنون الربط بين المعرفة المتوافرة في النصوص المدروسة وبين مقروءاتهم السابقة كما لا يحسنون استخدام عمليات البرهنة بسبب عدم استضمار آلياتها استضمارا سليما، لهذا لا بد من تدريبهم على هذه المهارات وعلى تقوية ردود أفعالهم تجاه ما تعبر عنه النصوص من أفكار ومواقف ومشاعر، مع تنبيههم إلى تفادي الاستجابة السلبية.
2-5-عمليات المعرفة الشارحة Les processus métacognitifs: تتركب هذه العمليات من جزءين هما: "المعرفة" و"المعرفة الشارحة"، يراد "بالمعرفة" العمل الذهني الذي يقوم به القارئ كالفهم والتذكر ومعالجة المعطيات إلخ.. أما "المعرفة الشارحة" فتخيل على الوعي بهذا العمل الذهني وبالصعوبات التي تعترضه وبالوسائل الكفيلة بالتغلب على هذه الصعوبات.
يتضح إذا أن المعرفة الشارحة تدور حول:
أ ـ معرفة إمكانات الذات القارئة كالوعي بقدراتها المعرفية وبحدودها وباهتماماتها وحوافز القراءة لديها…
ب ـ معرفة متطلبات النشاط القرائي والوعي به وكذا بأن المادة المنظمة أسهل في التعلم من المادة غير المنظمة…
ج ـ معرفة حل مشكلات القراءة، كالوعي بأهمية الاستراتيجياتفي حل مشكلات الفهم مثل استراتيجية متابعة قراءة النص، أو إعادة قراءته من جديد بعد الانصراف عنه بعض الوقت أو قراءته في ضوء أحد المراجع الأساسية…
يظهر، إذا، أن تدريب التلاميذ على هذه العمليات بواسطة التعليم والتعلم يساعد على التمييز بين موقفين في نشاطهم القرائي: موقف الفاهم وموقف غير الفاهم، موقف العارف وموقف غير العارف.
خاتمة:
أشرنا سابقا إلى أن التعرف على المتعلم كقارئ لا يقل أهمية عن التعرف على النص وسياق قراءته، إلا أن هذا التصور لا أثرله في الممارسة داخل مؤسساتنا. فما يلاحظ هو أن أغلب المدرسين منهمكون في معالجة مشكلات النص المقروء أو مشكلات سياق قراءته دون إيلاء أهمية لطبيعة التلقي لدى القارئ المتعلم، ودون التساؤل عن الاستراتيجية التي يستعملها في فهم هذه النصوص. فتقف ردود أفعال هؤلاء المدرسين عند حدود اتهام المتعلم بالقصور في الفهم وضعف المستوى. ومعلوم أن هذا الموقف يواجه اليوم انتقادات سواء من طرف البيداغوجيين أم من طرف نقاد الأدب الجدد لكونه لا يعي أن فهم النص تجربة تواصلية وأن معرفة النص ومعرفة الذات القارئة شرطان أساسيان لفهم طبيعة هذه التجربة التواصلية
إرسال تعليق