النمو المعرفي و الاستعداد للتعلم عند كل من بياجيه وبرونر
مقدمة:
أصبح النمو المعرفي. والاتجاه المعرفي في علم النفس يحتل مكانة مرموقة في الكتب السيكولوجية الحديثة. بل تطور هناك ما يعرف بعلم النفس المعرفي. ويمثل الاتجاه المعرفي في علم النفس أحد أهم خمسة اتجاهات معاصرة في علم النفس، إن النمو المعرفي هو أهم عناصر السلوك المدخلي للمتعلم الذي يجب أن يحيط به المعلم إحاطة تامة. لما له من علاقة مباشرة بالممارسات التعليمية وخبرات التعلم التي يجب أن يتعرض الطلاب لها من جهة، ولما له من علاقة مباشرة بمفهوم الاستعداد التطوري للتعلم الذي سبقت الإشارة إليه في الفصل الأول من هذا الباب من جهة ثانية. وفي الفصل ستتعرف إلى رأي ثلاثة من أفذاذ علماء النفس والتربية في النمو المعرفي. حيث يمثل كل منهم اتجاها متميزا في النظر إلى النمو المعرفي. وهؤلاء هم العلامة السويسري جان بياجيه (Piaget) وعالم النفس الأمريكي جيروم برونر (Bruner) هذا يمثلان وجهة النظر المعرفية في النمو المعرفي. وإن كانا يختلفان فيما بينهما اختلافات واضحة
الاستعداد للتعلم عند بياجيه (Readiness):
إن الاستعداد التطوري للتعلم عند بياجيه له مفهوم نسبي. لأن حدود التعلم تخضع لمرحلة النمو المعرفي التي ينتمي إليها الطفل. وما يميز هذه المرحلة عن أساليب التفكير وأنماطه.
وهكذا يجب أن لا نواجه الطفل بمشكلات تتطلب أعمالا تتفوق على مرحلة تطوره المعرفي كما يجب ألا نعطل عليه ممارسة الأعمال العقلية التي يؤهله نموه المعرفي لممارستها.
وأمام هذا الرأي ترد ثلاثة أسئلة رئيسة تشغل بال المربي:
السؤال الأول: هل يمكن أن نعتمد أفكار بياجيه عن خصائص كل مرحلة، فنستند إليها في تنظيم خبرات تعليمية تناسب مستويات أطفالنا للتعلم في الأعمال المختلفة؟
يقول بياجيه: إن كل طفل يمر في المراحل الأربع بتتابع منتظم، ولكن الأعمار لكل مرحلة أعمار تقريبية، وتتأثر سرعة تقدم الطفل من مرحلة إلى أخرى بالعوامل التكوينية والعوامل الثقافية العامة والبيئية، وما يرتبط بها من عامل الخبرة الشخصية. وتشير نتائج دراسات العلماء إلى وجود فروق بين أطفال العمر الواحد في نموهم المعرفي، قد تصل في بعض الحالات إلى ثلاث أو أربع سنوات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يميل بعض العلماء إلى القول: إن الطفل لا يفكر بالمستوى نفسه أمام جميع المواقف.
كما أن بعض الأبحاث التي أجريت في انجلترا تشير إلى أن تطور التفكير يتم بتدرج تام وليس على هيئة مراحل تتصف كل منها بسمات خاصة، وهكذا نرى أنه يمكننا الاهتداء بوجه عام بمراحل بياجيه في التطور المتدرج لتفكير الطفل، ولكننا بالإضافة إلى ذلك يجب أن نسعى إلى فهم مستويات التفكير التي بلغها أطفالنا عند تنظيمنا لتعلمهم.
السؤال الثاني: إذا كان التطور المعرفي للأطفال يخضع لفروق فردية فيما بينهم فهل تستطيع المدرسة أن تعمل على دفع هذا التطور؟
يقول بياجيه: إن التطور المعرفي يتأثر بفرص تفاعل الطفل مع المثيرات البيئية، وهكذا فإن إتاحة العديد من الفرص أمام الأطفال للتفاعل مع الأشياء وتجريبها ومع الأشخاص ومناقشتهم، يساعد كثيرًا على فهم تطورهم المعرفي، وقد سبق أن رأينا معاً كيف أن بعض المدارس تضع برامج تربوية خاصة لتعويض الأطفال الذين ينتسبون إلى بيئات فقيرة تربويا كي تنمي استعدادهم للتعلم.
السؤال الثالث: هل نلتزم تمام بمستوى النضج المعرفي لأطفالنا في تنظيمنا لتعلمهم؟
هناك رأيان في تنظيم الخبرات التعليمية للأطفال بالإشارة إلى أفكار بياجيه: أحدهما يطالب بالمطالبة الكلية بين الخبرات التعليمية وأنماط التفكير السائدة لدى الطفل.
والآخر يطالب بالمطابقة الجزئية. ودعوى أصحاب هذا الرأي الأخير. هي أننا يجب أن نستهدف تطوير النمو المعرفي للطفل لا إبقاءه حيث هو، وأن هذا التطور يستلزم وضع الطفل في مواقف تتطلب استخدام أنماط تفكير أعلى قليلاً من أنماط التفكير السائدة لديه، وهكذا يؤدي فشل هذه الأنماط الأخيرة في معالجة الموقف إلى تجربة النمط الأرقى المرغوب فيه، ثم إدماجه تدريجيا في تنظيمه المعرفي.
وهذا الرأي الأخير يعد تطبيقا لاستراتيجية تنظيم التعلم عند بياجيه الذي يرى أن كل طفل في كل عمر، يكون لديه بعض الأمور التي يعرف عنها أشياء وله فيها آراء، ولكنه لا يكون متأكدا من صحة معرفته وآرائه، خاصة عندما يكون لديه بعض الشواهد المتناقضة أو المتعارضة بحيث تثير لديه شكوكا في معرفته وآرائه.
وإنها لمسئولية المعلم أن يكشف هذه الأمور التي تعد مجالاً لاختلال التوازن المعرفي عند الطفل والتي تثير لديه الخبرة والقلق، فيهيئ له موارد جديدة للمعرفة تنير الطرق أمامه لتفسيرات جديدة وناجحة لهذه الأمور فيتلخص من حالة التوازن المعرفي وينتقل إلى حاجة من الرضا الناتج عن إدماج الخبرات الجديدة في تنظيماته المعرفية.
ويجب ألا ينتظر المعلم دائماً حتى تظهر حالات اختلاف التوازن تلقائياً، بل عليه أن يساعده من خلال ما يهيئه من نشاطات، ويساعده على أدائها فيحرك لديه الدهشة والتساؤل.
الاستعداد للتعلم عند برونر (Readiness for learning):
يبدأ برونر حديثه حول قضية الاستعداد بالفرضية الآتية: « يمكن تعليم أي موضوع بفعالية، وبشكل عقلي أمين، لأي طفل في أي مرحلة من النمو » (Bruner, 1977) ويرى برونر أن هذه الفرضية جوهرية عند التفكير في طبيعة المنهاج، ويضيف أنه ليست هناك بيانات تتعارض معها، بل لقد تجمعت بيانات كثيرة تدعمها. إن مهمة المعلم هي المطابقة بين طريقة تقديم المادة للمتعلم وبين طريقته في تمثيل المعرفة، وهي مهمة تتطلب تمثيل البناء الأساسي للموضوع بتعابير طريقة الطفل في النظر إلى الأشياء، فهي لا تتعدى كونها مهمة ترجمة ليس إلا.
وهذا يعني أنه لابد من بناء منهاج يحتوي في معظمه على الأبنية الأساسية للمادة الدراسية، بحيث يمكن تعديلها بشكل يتفق مع طريقة تمثيل الطفل للخبرات في مرحلة معينة.
ماذا يعني برونر بالبناء؟ وكيف يمكن الحصول عليه؟ وما هي أهميته؟
يرى برونر أن الهدف الأول لفعل التعلم -بعد ما يعطيه من سرور- هو أنه يجب أن يخدمنا في المستقبل.
إن أحسن أنواع البناء -عند برونر- هو ما يتكون من منظمة افتراضات يمكن منها توليد كمية أكبر من المعلومات والمعارف. ويعتمد هذا بشكل واضح على مقدار التقدم الذي أحرز في ميادين المعرفة. وتعتمد فائدة هذا البناء في قدرته على تبسيط المعلومات، توليد قضايا جديدة، وزيادة القدرة على التحكم بمجموعة معارف.
لذلك يجب أن يرتبط البناء بوضع المتعلم ومواهبه، وعلى هذا فالبناء المثالي هو نسبي، وليس مطلقاً وذلك لاختلاف المتعلمين.
إن فاعلية وكفاية بيئة المادة الدراسية تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة يؤثر كل منها في قدرة المتعلم على تعلم المادة والسيطرة عليها، وهذه العوامل هي:
أولاً: طريقة العرض: ويقصد بها حالة التمثيل التي توضع فيها المادة الدراسية ونتذكر هنا أن حالات التمثيل ثلاث هي الحركي. والأيقوني، والرمزي.
ثانيًا: الاقتصاد: ويقصد به كمية المعلومات اللازمة أو الواجب أن تحفظ في الدماغ لفهم الموضوع، فكلما احتاج المتعلم إلى معلومات أكثر لفهم موضوع ما، ازدادت الحاجة إلى خطوات ومهام جديدة وبالتالي قلت الاقتصادية، وبذا تكون الاقتصادية في أعلى صورها عندما لا يحتاج المتعلم سوى معلمات قليلة لفهم مادة التعلم.
ثالثًا: القوة الفعالة: ويقصد بها القيمة التوليدية لمادة التعلم، فكلما أمكن توليد منظومات جديدة من القضايا التعليمية ازدادت فاعلية البناء، ويمكن أن يمثل ذلك بقدرة البناء على الربط بين الأمور التي تبدو وكأنها منفصلة عن بعضها بعضاً.
ومن هنا يكون تعلم البناء مشيبا بذاته، ويبقى دافعية المتعلم ورغبته في التعلم عالية وبالتالي تتحقق درجة عالية من الاستعداد.
إرسال تعليق