البدائل التربوية للعقوبات البدنية في الوسط المدرسي
بقلم الأستاذ : محمد حابا
بالنظر لتنوع انتظارات المتمدرسين، وبفعل التغيرات النفسية والفيزيولوجية التي يعيشونها طيلة مسارهم الدراسي، قد يحدث نوع من عدم التوافق مع متطلبات الوسط المدرسي، ومع الضوابط والالتزامات التي تفرضها المدرسة كمؤسسة أوكل لها المجتمع مهام التربية والتكوين والتهذيب والتثقيف والتنشئة.... يتخذ عدم التوافق هذا شكل أفعال وردود أفعال مختلفة وغير متوقعة، بل ومخالفات سلوكية متنوعة ومختلفة من قبيل عدم إحضار الدفاتر والمقررات، أو عدم انجاز الواجبات المنزلية، أو استخدام الهاتف النقال داخل المؤسسة، لكن قد تصل أحيانا إلى مستوى العبث بممتلكات وتجهيزات المؤسسة التربوية، أو تتخذ مظاهر التهديد والعنف تجاه الذات أو الأقران أو الراشدين، وباقي أصناف السلوكات اللامدنية.
ولئن كانت المقاربة الوقائية المبنية على احترام شخصية التلميذ، وتفهم حاجاته وحسن الإصغاء لانتظاراته والتفاعل مع حاجياته وإشراكه في مختلف الأنشطة التربوية وتحفيزه ... هي الأكثر قدرة على ضمان حسن تكيف المتعلم مع الوسط التربوي، فإن المؤسسة التعليمية تجد نفسها مضطرة أحيانا لتفعيل المقاربة العلاجية عن طريق تدخلات عقابية تروم معالجة وتعديل السلوكات غير المرغوب فيها، وذلك من خلال إعمال المساطر التأديبية. غير أنه في ظل التحولات التي يعرفها السياق الاجتماعي والتربوي، فقد ظهرت دعوات نحو اعتماد سبل وصيغ بديلة للعقاب التقليدي، تم التفاعل معها من طرف القائمين على الشأن التربوي من خلال إصدار المذكرة الوزارية رقم 867 بتاريخ 17اكتوبر2014 بشان القرارات التأديبية المتخذة من طرف مجالس الأقسام.
فما هي بعض الأسس والمرجعيات التربوية المؤطرة لإعمال الصيغ البديلة للعقاب في الوسط المدرسي؟ ثم كيف يتفاعل المدرسون، باعتبارهم فاعلين ميدانيين، مع هذا التوجه التربوي؟.
1. محورية المتعلم كمدخل أساسي للممارسة التربوية في ظل السياق التربوي الجديد:
- مكانة المتعلم في ظل التشريعات الوطنية والدولية:
ينبغي التذكير بداية على أن الاهتمام بالطفل بشكل عام وبالمتعلم بشكل خاص، بما يسمح بنموه وتكوين شخصيته بشكل سليم، يعد أحد الرهانات الأساسية لبناء المستقبل، وضمانة أكيدة لدعم احترام حقوق الإنسان لدى الأجيال القادمة. وقد أكدت العديد من التشريعات الدولية التي صادق عليها المغرب على أهمية النهوض بالطفولة عن طريق تعزيز الحقوق والحريات بما ينعكس إيجابا أوضاع هذه الفئة اجتماعيا وصحيا وتربويا... وفي هذا الإطار، فقد صادق المغرب على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل سنة 1993 التي توفر إطار عاما يضمن لهذه الفئة المستضعفة الحماية من مختلف المظاهر السلبية كالهدر المدرسي، العنف بشتى مظاهره، الإهمال، التشغيل...
وفي إطار تكييف المنظومة القانونية والمؤسساتية الداخلية مع المعايير الدولية المتعارف عليها في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، فقد تضمنت ديباجة الدستور المغربي لسنة 1996 إشارة واضحة لهذا الأمر، وزكاه المشرع الدستوري في 2011، حيث ورد في تصدير الوثيقة الدستورية أنه "وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم". كما جدد الدستور التزام المغرب وعزمه على "جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة"، وهو الأمر الذي سمح وسيسمح بإصدار العديد من التشريعات المرتبطة بتقوية أوضاع الطفولة في مختلف المجالات، خاصة وأن الفصل 32 من الدستور قد نص على أنه "تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية"، وعلى أن "التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة".
وبالتركيز على جانب التربية والتكوين، فقد نص الفصل 31 من الدستور المغربي، الذي يندرج ضمن الباب الثاني المعنون بالحريات والحقوق الأساسية، على أنه "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في ... الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، ... (وفي) التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية...".
إن هذا الاهتمام بوضعية المتعلم هو ما عكسته أيضا التشريعات والوثائق التربوية، وفي مقدمتها الميثاق الوطني للتربية والتكوين باعتباره وثيقة موجهة للإصلاح التربوي خلال مطلع الألفية الجديدة، حيث اعتبر أن إصلاح نظام التربية والتكوين ينطلق "من جعل المتعلم بوجه عام، والطفل على الأخص، في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية..."، كما زكى ضرورة إعمال المقاربة الحقوقية في الشأن التربوي من خلال التنصيص على احترام المبادئ والحقوق المصرح بها للطفل والمرأة والإنسان بوجه عام في جميع مرافق التربية والتكوين، كما تنص على ذلك المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية المصادق عليها من لدن المملكة المغربية. وأولى هذه الحقوق هو حق الولوج دون تمييز، وهو من أكبر الأوراش الوطنية المرتبطة بتحديات توسيع العرض والنهوض بالجودة ودعم التمدرس وتوفير الدعم المدرسي والبيداغوجي ومحاربة الهدر المدرسي حيث "يعمل نظام التربية والتكوين على تحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص أمامهم, وحق الجميع في التعليم، إناثا وذكورا، سواء في البوادي أو الحواضر، طبقا لما يكفله دستور المملكة"، وضرورة احتضان المتعلم وحسن التواصل والتفاعل مع متطلباته وانتظاراته من خلال مدرسة مغربية وطنية جديدة مفعمة بالحياة، بفضل نهج تربوي نشيط، يجاوز التلقي السلبي والعمل الفردي إلى اعتماد التعلم الذاتي، والقدرة على الحوار والمشاركة في الاجتهاد الجماعي، ومفتوحة على محيطها بفضل نهج تربوي قوامه استحضار المجتمع في قلب المدرسة، والخروج إليه منها بكل ما يعود بالنفع على الوطن..."، هذا إلى جانب توفير الحماية له ضد الإهمال والعنف، وتبدو مراكز الإنصات والوساطة التربوية كجيل جديد من الخدمات التربوية في الوسط المدرسي.
- المقاربة التربوية: تحول محوري في نظرة المجتمع التربوي للعقاب
باعتبارها مجالا للتنشئة الاجتماعية، تضطلع المؤسسة التربوية في مختلف المجتمعات بالعديد من الوظائف الحيوية. فالمدرسة أداة للتعليم والتربية والتكوين والتأهيل لإعداد الأفراد للاندماج في الحياة العامة بمختلف تجلياتها وامتداداتها. ومن هذا المنطلق، يحظى المتعلم بمكانة محورية ضمن أية منظومة تربوية تراهن على تنمية العنصر البشري. ورغم اختلاف رهانات التدخلات الإصلاحية التي باشرتها السلطات التربوية المغربية منذ 1957، فإن قاسمها المشترك هو الاعتراف بالموقع المتميز والمحوري للمتعلم ضمن سيرورة العملية التربوية التكوينية مما يقتضي الوعي بتطلعاته وحاجاته البدنية والوجدانية والنفسية والمعرفية والاجتماعية، مع انخراط مختلف المتدخلين في المنظومة التربوية في عمل واعي يستهدف إرشاد المتعلمين ومساعدتهم على التقوية التدريجية لسيرورتهم الفكرية والعملية، وتنشئتهم على الاندماج الاجتماعي، واستيعاب القيم الدينية والوطنية والمجتمعية. لذلك، يتولى نظام التربية والتكوين مهمة منح الأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة بشكل عام.
لقد شكل المنطق الحقوقي والتربوي أساس الإصلاح التربوي الذي شهده المغرب، على الأقل، منذ مطلع الألفية الجديدة وإعمال الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وهو ما انعكس على وضعية ومكانة المتعلم في التشريعات القانونية والتربوية، وعلى المقاربة المعتمدة في التعامل مع بعض الوضعيات في الفضاء المدرسي، الأمر الذي يسمح بظهور مفاهيم جديدة ومتجددة داخل الفضاء التربوي، وضمنها الصيغ الجديدة للعقاب.
لكن قبل ذلك، ينبغي التذكير أن مسؤولية التأديب داخل المؤسسات التعليمية قد عرفت بدورها تغيرا على مستوى السلطة المخولة باتخاذ العقوبة التأديبية المدرسية. ففي الوقت الذي منح فيه مرسوم 11 فبراير 1972 مدير المؤسسة سلطة التأديب، من خلال تنصيص المادة 11 من ذات المرسوم على أنه "يتحمل المدير المسؤولية التربوية والإدارية والمالية للمؤسسة ويسهر على سير الدراسة ويحافظ على النظام والتأديب"، فإن المرسوم رقم 2.02.376 بمثابة النظام الأساسي الخاص بمؤسسات التربية والتعليم العمومي كما وقع تغييره وتتميمه الصادر بتاريخ 25 يوليو 2002، يعد نصا مرجعيا أساسيا في تأطير وتقنين عملية إصدار العقوبات التأديبية في حق التلاميذ المخالفين لقوانين العمل التربوي بالمؤسسات التعليمية، حيث منحت المادة 29 منه مجالس الأقسام بالمؤسسات التعليمة صلاحية اقتراح قرارات تأديبية في حق التلاميذ والتلميذات غير المنضبطين وذلك بالاستناد لمقتضيات الأنظمة الداخلية لمؤسساتهم التربوية. لقد ظلت السمة الغالبة لهذه العقوبات هي مراوحتها بين الإنذار والتوبيخ والطرد المؤقت ثم الطرد النهائي من المؤسسة التعليمة.
غير أن مراجعة أنماط العقاب المعتمدة في المؤسسات التعليمية والتأسيس لمفهوم العقوبات البديلة سيظهر بعد صدور المذكرة الوزارية رقم بتاريخ 17 أكتوبر2014 في شأن القرارات التأديبية المتخذة من طرف مجالس الأقسام، والتي تدعو إلى إلغاء عقوبات التوقيف الكلي أو الجزئي من الدراسة التي تتخذها المجالس الانضباطية في إطار التدابير الزجرية في حق التلميذات والتلاميذ الذين تسجل في حقهم مخالفات سلوكية في الصف أو في الوسط المدرسي عموما. وحسب هذه المذكرة، فإن العقوبات التي يتم إنزالها على المتعلمين تنتج عنها مجموعة من الأضرار، خاصة على مستوى حرمانهم من بعض الحصص الدراسية والرفع من مخاطر الانقطاع عن الدراسة. لذلك، تدعو المذكرة إلى اعتماد عقوبات بديلة في حق التلاميذ و التلميذات المخالفين تعود بالنفع على المجتمع المدرسي، من قبيل تنظيف ساحة المؤسسة ومرافقها، إنجاز أشغال البستنة، تنظيف وترتيب الكتب والمراجع المدرسة، المساعدة في تقديم خدمات المطاعم المدرسية والداخليات ...
2. العقوبات البديلة كتمظهر لإعمال المقاربة التربوية في التأديب بالمدرسة المغربية: آراء بعض الفاعلين ومستلزمات التنزيل
لتتمة المقال يرجى الضغط على الزر التالي أسفله
<><>
2. العقوبات البديلة كتمظهر لإعمال المقاربة التربوية في التأديب بالمدرسة المغربية: آراء بعض الفاعلين ومستلزمات التنزيل
توفر وسائل التواصل الاجتماعي متنا معرفيا يمكن توظيفه في استقراء آراء المتفاعلين بشأن مواضيع شتى. وفي هذا الإطار، فقد سمح الاشتغال على آراء عينة من المدرسين حول موضوع البدائل التربوية للعقوبات البدنية في المدرسة من الخروج ببعض الخلاصات حول نظرة الأساتذة والأستاذات للموضوع. وبالنظر لصعوبة ضبط المعطيات السوسيو ديمغرافية للمتدخلين بما يسمح بإبراز الترابطات الممكنة بينها وبين الموقف من إعمال العقوبات البديلة، فإن المعطى الوحيد المتوفر يتعلق بمتغير الجنس، إذ يتعلق الأمر بسبر آراء حوالي 30 مدرسا ضمنهم 19 أستاذة. قد لا يسمح العدد بإجراء دراسة نوعية موثوقة النتائج، غير أن الخلاصات الأولية يمكن تقديمها في مستويين اثنين كما يلي:
- المنطق التبريري: استمرار العقاب في الوسط المدرسي مسؤولية المحيط الخارجي
رغم اتفاق المدرسين على وضوح النص القانوني والمرجعيات التربوية في منع استعمال العقاب البدني، فإن ذلك يظل، في نظر بعضهم، خطابا نظريا يصطدم بواقع الممارسة الميدانية، حيث "يضطر" المدرس مكرها وطمعا في تحسين حال متعلميه للأفضل، إلى توظيف "العصا" للتهديد أو الاستعمال "الخفيف" في إطار مقولة (آخر الدواء الكي)، باعتبار ذلك "السبيل الوحيد" لضمان هدوء وانضباط وانتباه والتزام المتعلمين وانخراطهم في الفعل التربوي، حتى لا يكون التغاضي عن معاقبة المقصر في واجباته بمثابة رسالة سلبية لباقي أقرانه. وفي نفس السياق، قد يسلك بعض المدرسين نهجا متدرجا للعقوبة باستعمال صيغ أخرى أقل شدة كالتوبيخ أو الحرمان من الاستراحة أو حتى مقاطعة المتعلم، أو تخويفه من خلال التهديد بإخبار الأسرة... كل ذلك ينبغي ألا يتم في ظل الانفعال، وألا يتم "استعمال أية أداة من الممكن أن تخلف آثارا مادية تجعل الأستاذ موضع مساءلة"، لأن الضرب ليس هدفا في حد ذاته، وإنما "وسيلة للتأديب والتربية وفرض قواعد الانضباط".
قد يرتبط حضور العقاب البدني في الممارسة التربوية لبعض المدرسين بتلك الصورة المتسمة بنوع من التمركز حول الذات والتي تشكلت لديهم في مراكز التكوين حول ذلك الأستاذ "الملك في قسمه"، مع ما ينتج عن هذا التصور من صلاحيات "لا محدودة" للمدرس في فرض "شخصيته وقوانينه وأسلوب عمله" بغض النظر، أحيانا، عن التوجهات التربوية وانتظارات مرتفقي المنظومة التربوية. إن تغييب وعي المدرس بدوره كفاعل تربوي مسؤول عن تجديد الممارسة التربوية يربط استمرار العقاب البدني كممارسة لا تزال حاضرة في أذهان وممارسات بعض المدرسين بتبريرات تستند في جوانب كثيرة منها على عوامل خارجة يمكن تحديد بعضها، حسب آراء المدرسين، فيما يلي:
- ضغوطات داخلية مرتبطة بالمنظومة التربوية: يعتبر بعض الأساتذة أن الإكراهات المؤسسية، خاصة الإكراه الزمني المرتبط بضرورة إنهاء المقررات الدراسية في حينها، والطلب المتزايد تربويا وإداريا واجتماعيا من أجل تحسين المستوى الدراسي للتلاميذ في ظل الاكتظاظ الذي تعرفه بعض الفصول الدراسية، كل ذلك لا يترك لهم مجالا للتفاعل والتواصل مع المتعلمين، بل يرون في تخصيص أحياز زمنية لمعالجة ردود أفعال التلاميذ عراقيل تحول دون تنفيذ المهمة المطلوبة، وهنا يصير العقاب أداة لضبط المتعلم وجعله يساير إيقاع التعلم المفروض. تكمن خطورة هذا الطرح في كونه لا يولي كبير أهمية للتفاعلات والعلاقات التربوية والحياة اجتماعية داخل المؤسسة أفقيا وعموديا، ومن التأثير الذي تمارسه المؤسسة على سلوكات الأفراد (مفعول المؤسسة-Effet établissement)، كما لا يستحضر أهمية التفكير الجماعي داخل المؤسسة بهدف إيجاد الصيغ الكفيلة بإنجاز المطلوب في أجواء تربوية مناسبة؛
- عدم تسليح المدرسين بالتكوين المناسب: تذهب طروحات بعض الأساتذة إلى "اتهام" مراكز التكوين وبرامج المواكبة والتأطير التربوي بالقصور في تمكينهم، سواء خلال فترة التكوين أو أثناء الممارسة، من تملك بعض المناهج والمقاربات والتقنيات التربوية البديلة عن العقاب البدني، ويعتبرون أن هذا الأمر ينبغي أن يأخذ طابعا إلزاميا باعتبار أن حسن توجيه العلاقة التربوية مع المتعلم هي إحدى مسؤوليات المدرس أثناء مزاولة مهامه، بما يمكنه من تجاوز حالة "التخبط" التي يعيشها بحثا عن صيغ مناسبة لضبط قسمه. يساءل هذا الطرح منظومتي التكوين الأساس والمستمر في القطاع التربوي، ذلك أن مفاهيم جديدة من قبيل الإنصات، المواكبة، الوساطة التربوية، ... ينبغي أن تكون موضوع مجزوءات ودورات تكوينية، كتدابير موازية، لتمكين الأستاذ من التفاعل الإيجابي مع المنحى التربوي للعقاب والتأديب؛
- عدم انخراط الأسر في المشاريع والمبادرات التربوية للمؤسسات التعليمية بشكل يسمح بممارسة الأثر الإيجابي على أطفالهم ويسهم في اندماج المتعلم في الوسط المدرسي، إذ غالبا ما ينحو الآباء لتصديق روايات أطفالهم بشأن سلبية بعض الإجراءات التي يتخذها المدرسون لحسن توجيه العمل داخل الفصول الدراسية. ورغم أن ذلك قد يرتبط، حسب بعض المدرسين، بانتشار الأمية في صفوف بعض الآباء خاصة في الوسط القروي، فإن علاقة الأسرة بالمدرسة قد تصل أحيانا حد التوتر تترجمه الرغبة في "توريط" المدرس في قضايا التعامل العنيف مع المتعلمين خدمة لرغبات غير معلنة قد تصل أحيانا حد الابتزاز بعد الحصول على شهادات طبية "مبالغة أحيانا في تقدير الوضعية الصحية للمتعلم". إن هذا التوتر في العلاقة قد ينتج عن عدم تفهم الآباء للإجراءات التي يقوم بها الأساتذة تجاه أبناءهم، ذلك أن مجرد "تغيير مكان الجلوس لتلميذ بعد اكتشاف نقص بصره" يعرض الأستاذ للشكوى، كما أن "تكليف متعلم بمساعدة زميل له في ارتداء حذاء ...." قد يفهم منه استعباد له، دون أن تنتبه الأسر إلى أهمية التكافل والتعاون بين الأطفال كمظهر للمهارات الحياتية التي تستهدفها المؤسسة التعليمية؛
- اختلاف الثقافة المدرسية عن الثقافة الأسرية في الجانب المتعلق بالموقف من العقاب البدني، إذ في الوقت الذي تدفع فيه المدرسة نحو أسلوب تربوي يقوم على مزيد من التفهم والتواصل والحوار وعلى بناء التعاقدات التربوية، يلاحظ بعض المدرسين أن أسلوب التربية المعتمد داخل الأسرة غالبا ما يرتكز على العقاب، لدرجة أن الطفل فد يتعود على ذلك، وتصير استجاباته مرتبطة بهذا النوع من التعامل. إن هذا التفاوت في نمط التعامل يضع مسؤوليات أكبر على المدرس.
- المنطق الإبداعي: المدرس الفاعل ضمانة أساسية لإعمال المقاربة التربوية للعقاب
لا شك أن انخراط المدرس يعد عاملا محوريا في كل تدخل يرمي إلى إعادة الحياة للمؤسسة التعليمية. وعلى هذا الأساس، فإن النقاش حول نوعية التمثلات التي يحملها المدرس تجاه مهنته، وتجاه علاقته مع مختلف المتدخلين في العملية التربوية، ومع المحيط المدرسي ... مدخل أساسي لفهم مدى استيعابه لدوره المؤثر في بناء فعل تربوي سليم منهجيا وناجع على مستوى خدمة الأهداف التربوية. إن التمثل الإيجابي للمهنة وللأدوار المترتبة عنها، ودرجة راهنية التكوين، ومدى الاهتمام بالمواكبة والتكوين الذاتي... كلها عوامل تسمح للمدرس ببناء ممارسة تربوية وتعليمية تقوم على معرفة ورصد وتفهم لحاجات التلاميذ، ومواكبة لسيرورة تطورهم ونماءهم بتنسيق مع باقي المدرسين ومع الأسر.
ضمن هذا الإطار تندرج آراء وتمثلات عدد من المدرسين الذين يرفضون صيغ العقاب البدني للمتعلمين، وينتصرون للمقاربة التربوية، ويعتبرون أن العقاب ما هو في حقيقة الأمر إلا مهدئ أو مسكن، إذ بمجرد زوال الألم، يصبح المتعلم مهيأً للعودة للسلوك غير المرغوب فيه، مما يدفع المدرس إلى ممارسة عقوبات أخرى مع ما قد يترتب عن ذلك من آثار سلبية كثيرة.
وبالرغم من جسامة المسؤوليات التربوية سواء داخل الفصل أوخارجه، فإن العلاقة التربوية بين المدرس والمتعلم ينبغي أن تتأسس، وفق منظور تربوي للعقاب، على المداخل التالية:
- احترام ذاتية وكرامة المتعلم وعدم إهانته أو تحقيره تصريحا أو تلميحا، واستحضار المبادئ الأساسية للتعامل مع الطفل تقوم على الاعتراف به كذات لها حاجياتها وانتظاراتها؛ تركيبته النفسية ووضعيته الاجتماعية. والحرص على بناء علاقات قائمة على الثقة والإنصاف مع جماعة الفصل، يؤطرها ميثاق القسم الذي يتم بناؤه بشكل جماعي ليكون بمثابة الدستور والمرجع في الحقوق والواجبات والعقوبات؛
- اعتماد الحوار والتواصل مع المتعلمين كأساس للعديد من البدائل التربوية للعقاب، تتوخى الدعم والتحفيز والتشجيع (وضع لائحة لتتبع أداء المتعلمين داخل القسم حيث توضع علامة عند أي تقصير وتمسح عند إحراز التقدم؛ التصفيق أو الشكر العلني أو تقديم حلوى أو هدية رمزية عند نهاية كل مقطع أو مرحلة تعليمية؛ كتابة اسم أحسن تلميذ نهاية كل أسبوع على السبورة الحائطية...)؛
- الإنصات المتواصل لهموم المتعلمين والاقتراب منهم من خلال آلية الحوار المنفرد لفهم مشاكلهم التربوية والاجتماعية، بل يمكن توظيف هذا التواصل الثنائي لتقويم أداء المدرس نفسه لأنه قد يفضي لمعرفة بعض الصعوبات التي قد يكون المدرس نفسه هو السبب فيها؛
- الاستعداد والاشتغال الجيد كأفضل صيغة لجعل الفصل الدراسي فضاء للتواصل، ذلك أن البيئة الصفية للتعلم، ودرجة إيمانها بقيم التسامح، وتشجيعها للحوار والنقاش، ومساعدتها المتعلمين على الملاحظة والتأمل، ونوعية العلاقات السائدة في الفصل الدراسي، ومدى انخراط المدرس في التحضير الجيد لدروسه واختيار أنسب الطرائق لإنجازها، واعتماد منهجية فعالة في التفاعل الصفي، وسيادة تعامل تربوي قائم على تقاسم وتكامل الأدوار، ودرجة حضور صيغ التعاقد والاتفاق المبنيين على وضوح الأهداف في تدبير الفصل... كلها عوامل تسمح للمدرس بالثقة في النفس، كما تلعب دورا أساسيا في ترغيب المتعلم وتحبيب الفضاء المدرسي إليه، واحترام أستاذه واعتباره قدوة له؛
- أهمية اشتغال المدرس على الذات من خلال التفاني في العمل، والسعي من أجل بناء علاقات إيجابية مع المحيط قائمة على تفهم انتظاراته والتفاعل معها بما يسمح ببناء علاقات ثقة متبادلة مع مختلف المتدخلين في الشأن التربوي، وهو الأمر الكفيل بتمكينه من التحول إلى فاعل اجتماعي ذي إشعاع؛
- إشراك المتعلمين في الأنشطة الموازية لتفريغ طاقاتهم وإبراز مواهبهم وإبداعاتهم وتسخير قدراتهم في أعمال قد تعود بالنفع عليهم مستقبلا، وتمكنهم من الانفتاح على عالم التعلم والتميز، والتفكير في ما هو ايجابي، وتكليف المتعلمين بمهام داخل القسم؛
- ضرورة اشتغال المدرس على التقييم المستمر لمواقفه التربوية في إطار من النقد الذاتي والتغذية الراجعة لتحديد مسؤولياته المفترضة في نشوء بعض المواقف "المتوترة" مع جماعة الفصل، والتي يميل عادة إلى تحميل المسؤولية فيها للمتعلم، وفي نفس الآن تفادي الاستعجال في اتخاذ القرارات التربوية من خلال تقدير حجم الآثار النفسية التي ستترتب على الإقدام على سلوك مسطرة العقاب...
خاتمة:
يبدو أن إعمال العقوبات البديلة في الوسط المدرسي لا يزال تجربة في مهدها تحتاج إلى كثير من الرعاية القانونية والتربوية. إذ لا تتوفر المنظومة التربوية على وصفة جاهزة للبدائل الممكنة للعقاب البدني، نظرا لاختلاف الأساتذة على مستوى التكوين والشخصية، وكذا لتنوع حالات المخالفة والإخلال بقواعد الانضباط، إلى جانب اختلاف المتعلمين وجماعة الصف ومحيط المؤسسة التعليمية .... ليبقى المجال مفتوحا أمام الاجتهاد الشخصي وتبادل التجارب بين المدرسين. لذلك، فالحاجة ملحة لوضع إطار قانوني يحصر أنواع العقوبات حسب طبيعة المخالفات المرتكبة، على أن يركز بشكل كبير على العقوبات التربوية، ويحدد بشكل خاص الحالات التي يمكن فيها الوصول إلى حد مصادرة حق التلميذ في التعلم من خلال اتخاذ قرار الفصل النهائي من الدراسة، ويزيد من توضيح وتفعيل أدوار المجالس التأديبية، وتوضيح المسطرة التأديبية التي تلتزم الإدارة بإتباعها حفاظا على حقوق التلميذ، وتوفير ضمانات "المحاكمة العادلة" بما يضمن "شرعية" قراراتها ويحمي المؤسسة التعليمية من التسيب ويقوي وظيفتها التكوينية والتأطيرية. كما ينبغي العمل على مزيد التوعية والتحسيس بالقانون الداخلي للمؤسسة التعليمية كوثيقة تعاقدية تؤطر العلاقة بين مختلف الفاعلين في الوسط المدرسي.
بقلم الأستاذ : محمد حــابــا
إرسال تعليق