تعليم بريس :
مسؤولية التعليم عن الترحال المهني
الزكري عبدالرؤوف
يقر العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في العمل. وهذا الحق لا يعني فقط المشاركة في الإنتاج وخدمة الأنشطة المجتمعية، بل أيضا الاغتنام من الفوائد العائدة عن طريق هذه الأنشطة، بالقدر الذي يضمن مستوى من العيش الكريم دونما إقصاء من الحياة الاقتصادية. والعمل لا يسد حاجة الإنسان إلى تلبية حق من حقوقه، فهو بالإضافة إلى ذلك حماية له من تهديد العوز والخصاصة، وضمان للرفاهية والعدالة الاجتماعية، وهو أيضا حسب أندري للاند تطوير للشخصية ومعرفة بنقاط ضعفها وقوتها، وتهذيب للأخلاق وتعليم وأدب الحوار والاستماع والتواضع مع الناس؛ ومن خلاله نعبر عن الجدوى من الحياة باعتباره يشكل جزءا كبيرا منها، والتي تغتني بما نحققه نتيجة الجهد العقلي أو اليدوي.
العمل اليدوي والعمل الذهني:
تلقى الأعمال اليدوية ازدراء مقابل الأعمال الذهنية ذات الشأن الرفيع في أعين العامة من المجتمع، لوجاهة أصحابها ونفوذهم أحيانا تبعا لما يتقلدون من مناصب وما تذره من مدخول؛ في حين تبقى الأعمال اليدوية للذين هم أقل منهم ذكاء وتحصيلا دراسيا، وأقل دخلا، ولا تمنح لأصحابها إلا ذيل السلم الاجتماعي. وهذه الأفكار الخاطئة حسب عالم الاجتماع ريتشارد سينيت وصلت إلينا من قدماء الإغريق الذين كانوا يفضلون العمل الذهني على العمل اليدوي. وكان أفلاطون الذي تدرس فلسفته لكل عابر بالمدرسة يقسم الناس إلى طبقة الحكام، وهم الفرسان والشجعان؛ ثم هناك طبقة التجار المشتهين لحب المال، وأخيرا هناك العبيد والأعاجم والأجانب، الذين جعل من نصيبهم الأعمال اليدوية. في حين يعزو البعض ذلك إلى ظهور النظام الصناعي في القرن 19 وبروز نخبة من المهندسين الموكلين بالتفكير قبل التصنيع، ويمنحون أجورا عالية، ما دفع العمال اليدويين إلى الانتقاص من ذواتهم وعدم الشعور بالارتياح. ولا يمكن للشخص أن يكون مهما في نظر الآخرين إلا إذا كان مهما في نظر نفسه؛ وذلك بالشعور بأهمية العمل الذي يؤديه، وهو الشعور المحفز على الأداء الأفضل والإبداع في تحسينه سواء كان يدويا أو ذهنيا. وقد أشار برتران كولي إلى أن تحويل الخيال إلى واقع هو النقطة القوية في العمل اليدوي، الكفيل بمنح صاحبه جرعات من الرضا والسعادة.
العمل أهم أسباب السعادة:
إن السعادة بما هي حالة وجدانية إيجابية تستحوذ على مشاعرنا وعقولنا وتعطي للحياة معنى لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار العمل المريح المانح للرضا النفسي، المؤدي إلى الكفاءة الإنتاجية العالية، حين يقبل على العمل بنشاط وهمة عالية. فـ65 % من السعداء هم راضون عن أعمالهم حسب دراسة معهد جالوب. وعدم الرضا عن العمل يؤدي إلى سوء التكيف مع الضجر والملل والاستياء الممتد إلى الحياة العادية لصاحبه؛ وهو انعكاس لعدم الإشباع المستمد من العمل، فالموقف الوجداني للفرد تجاه عمله يظهر في سلوكياته وتعامله مع الزملاء وأفراد المجتمع عموما، فالاتجاهات الإيجابية نحو العمل هي كذلك نحو الحياة كما يقر علماء النفس. بالإضافة إلى الاستقرار المهني الباعث على الاطمئنان في توفير العيش المرغوب فيه، الذي يدفع إلى تجاوز المطالب الخبزية إلى ما هو رمزي ومعنوي من العمل. فلا يمكن للذي يستغل المناسبات وعطل الناس وأعيادهم للبحث عن قوتهم وقوت من يعولون أن يرضى عن عمله، وبالتالي عن نفسه. كحال الكثير من التجار الجائلين أو«الفراشة»، يقضون نهار اليوم وليليه في كر وفر مع من وكل لهم إخلاء الأماكن العمومية، مصدر رزقهم.
العمل تنفيس للاحتقان الاجتماعي:
إن أكبر موقد لنار التوترات الاجتماعية هو قلة فرص الشغل وبطالة الخريجين ذوي الشواهد العليا وغيرهم؛ وهو السبب ذاته للاضطراب الأمني الذي يتعين مواجهته بالتوجهات التي تحدث عنها باربيه، المتمثلة في:
_ استهداف السكان النشيطين.
- تحسين قابلية التشغيل للسكان عن طريق التكوين من أجل الإدماج والتكييف مع الشغل.
_ خلق مناصب شغل في برامج الأشغال العمومية.
وفي المغرب هناك برامج الترقية الوطنية وإجراءات دعم إنشاء المقاولات والتشغيل الذاتي. كما يتم اللجوء في كثير من الأحيان إلى زرع الأطر في الإدارات العمومية والجماعات المحلية لامتصاص غضبهم والزج بهم في بطالة مقنعة. كل هذا لم يفض إلى نتائج ملموسة تقضي على مظاهر تسيء إلى جمالية شوارعنا ومنتزهاتنا وكل الأماكن العمومية، في غير ما استثناء للأزقة الضيقة وأبواب المنازل والمحلات التي أصبحت محتلة من طرف «الفراشة»، المهنة التي تعاطاها الشباب والشيوخ والأطفال لتحقيق حاجاتهم وحاجات أسرهم الأساسية والاجتماعية، وإن كانت لا تلبي الرغبة في تحقيق الذات.
وقد انتشر هذا النوع من التجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة، في رأي الخبراء، بسبب نمو اقتصادي غير متوازن، والانتقال السريع من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، وما ترتب عنه من فقر وتهميش وغياب التدخل الحكومي اجتماعيا، والهجرة نحو المدن لسكان البوادي لتوالي فترات الجفاف، وعدم استفادتهم من مخطط المغرب الأخضر وبرامج التنمية المستدامة، والخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وغيرها؛ والتي عملت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على سد بعض الثقوب في مجال البنية التحتية ودعم الأنشطة المدرة للدخل، لمساعدة ذوي الطموحات في التشغيل الذاتي لتحقيق أحلامهم، حين تعذر عليهم الالتحاق بالقطاع الخاص لضعف مؤهلاتهم وقصور إمكانياتهم ومؤهلاتهم، وهي مسؤولية منظومة التربية والتكوين التي لم يكن عرضها ملبيا لحاجاتهم وميولاتهم وظروفهم الاجتماعية.
منظومة التربية والتكوين ورهانات التشغيل:
تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2016 حول «مستقبل الوظائف والمهارات» تنبأ بكون سبعة ملايين وظيفة ستعرف طريقها نحو الزوال، كما سيعرف العالم مليوني وظيفة لم تكن من قبل بحلول العام 2020 نتيجة الابتكارات التكنولوجية المتسارعة؛ ما يعني أن 65% من الأطفال الذين هم في المدرسة سيلجون سوق شغل وظائفه ليست موجودة حاليا.
فعلى الدولة، وتماشيا مع العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي ينص في المادة 2/6 على «توفير التوجيه والتدريب التقنيين والمهنيين» لمواطني اليوم والغد بما يتلاءم وما يتطلبه سوق الشغل، حتى لا يأتي اليوم الذي ننعت به خريجي جامعاتنا بأنهم «خطر» ولا جدوى من النظام التعليمي الذي خضعوا له، رغم ألا مسؤولية لهم في إيجاده والشعب التي ارتادوها، بل إنهم ضحاياه، نتيجة الربط القائم منذ زمان بين الشغل ونسبة النمو الاقتصادي فقط؛ ما تم التنبه إليه مؤخرا من والي بنك المغرب في تقريره الأخير الذي ينص على أن «كسب رهان التشغيل لا يستوجب فقط تحقيق معدلات نمو أعلى، بل أيضا تعزيز قدرة منظومة التربية والتكوين على الاستجابة لاحتياجات سوق الشغل» ما يستدعي الإصلاح الآني لها لتكون في مستوى اللحظة التاريخية التي هي مدعوة لها، وهو الإصلاح الذي لا يختلف اثنان حول أولويته، رحمة بالوطن والمواطنين. فالتأهيل المطلوب لا يقتصر على الجدران، بل الموارد البشرية التي أصبح يزج بها في الفصول الدراسية بدون تكوين أساس، مع ترك القدماء بدون تكوين مستمر وعدم التحفيز على التكوين الذاتي؛ في ظل افتقار تام لمؤسساتنا إلى الوسائل التي يتطلبها التعليم الفعال والنشيط، القادر لوحده على إنتاج المبدعين والمبادرين إلى تشغيل أنفسهم وتشغيل غيرهم.
العمل اليدوي والعمل الذهني:
تلقى الأعمال اليدوية ازدراء مقابل الأعمال الذهنية ذات الشأن الرفيع في أعين العامة من المجتمع، لوجاهة أصحابها ونفوذهم أحيانا تبعا لما يتقلدون من مناصب وما تذره من مدخول؛ في حين تبقى الأعمال اليدوية للذين هم أقل منهم ذكاء وتحصيلا دراسيا، وأقل دخلا، ولا تمنح لأصحابها إلا ذيل السلم الاجتماعي. وهذه الأفكار الخاطئة حسب عالم الاجتماع ريتشارد سينيت وصلت إلينا من قدماء الإغريق الذين كانوا يفضلون العمل الذهني على العمل اليدوي. وكان أفلاطون الذي تدرس فلسفته لكل عابر بالمدرسة يقسم الناس إلى طبقة الحكام، وهم الفرسان والشجعان؛ ثم هناك طبقة التجار المشتهين لحب المال، وأخيرا هناك العبيد والأعاجم والأجانب، الذين جعل من نصيبهم الأعمال اليدوية. في حين يعزو البعض ذلك إلى ظهور النظام الصناعي في القرن 19 وبروز نخبة من المهندسين الموكلين بالتفكير قبل التصنيع، ويمنحون أجورا عالية، ما دفع العمال اليدويين إلى الانتقاص من ذواتهم وعدم الشعور بالارتياح. ولا يمكن للشخص أن يكون مهما في نظر الآخرين إلا إذا كان مهما في نظر نفسه؛ وذلك بالشعور بأهمية العمل الذي يؤديه، وهو الشعور المحفز على الأداء الأفضل والإبداع في تحسينه سواء كان يدويا أو ذهنيا. وقد أشار برتران كولي إلى أن تحويل الخيال إلى واقع هو النقطة القوية في العمل اليدوي، الكفيل بمنح صاحبه جرعات من الرضا والسعادة.
العمل أهم أسباب السعادة:
إن السعادة بما هي حالة وجدانية إيجابية تستحوذ على مشاعرنا وعقولنا وتعطي للحياة معنى لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار العمل المريح المانح للرضا النفسي، المؤدي إلى الكفاءة الإنتاجية العالية، حين يقبل على العمل بنشاط وهمة عالية. فـ65 % من السعداء هم راضون عن أعمالهم حسب دراسة معهد جالوب. وعدم الرضا عن العمل يؤدي إلى سوء التكيف مع الضجر والملل والاستياء الممتد إلى الحياة العادية لصاحبه؛ وهو انعكاس لعدم الإشباع المستمد من العمل، فالموقف الوجداني للفرد تجاه عمله يظهر في سلوكياته وتعامله مع الزملاء وأفراد المجتمع عموما، فالاتجاهات الإيجابية نحو العمل هي كذلك نحو الحياة كما يقر علماء النفس. بالإضافة إلى الاستقرار المهني الباعث على الاطمئنان في توفير العيش المرغوب فيه، الذي يدفع إلى تجاوز المطالب الخبزية إلى ما هو رمزي ومعنوي من العمل. فلا يمكن للذي يستغل المناسبات وعطل الناس وأعيادهم للبحث عن قوتهم وقوت من يعولون أن يرضى عن عمله، وبالتالي عن نفسه. كحال الكثير من التجار الجائلين أو«الفراشة»، يقضون نهار اليوم وليليه في كر وفر مع من وكل لهم إخلاء الأماكن العمومية، مصدر رزقهم.
العمل تنفيس للاحتقان الاجتماعي:
إن أكبر موقد لنار التوترات الاجتماعية هو قلة فرص الشغل وبطالة الخريجين ذوي الشواهد العليا وغيرهم؛ وهو السبب ذاته للاضطراب الأمني الذي يتعين مواجهته بالتوجهات التي تحدث عنها باربيه، المتمثلة في:
_ استهداف السكان النشيطين.
- تحسين قابلية التشغيل للسكان عن طريق التكوين من أجل الإدماج والتكييف مع الشغل.
_ خلق مناصب شغل في برامج الأشغال العمومية.
وفي المغرب هناك برامج الترقية الوطنية وإجراءات دعم إنشاء المقاولات والتشغيل الذاتي. كما يتم اللجوء في كثير من الأحيان إلى زرع الأطر في الإدارات العمومية والجماعات المحلية لامتصاص غضبهم والزج بهم في بطالة مقنعة. كل هذا لم يفض إلى نتائج ملموسة تقضي على مظاهر تسيء إلى جمالية شوارعنا ومنتزهاتنا وكل الأماكن العمومية، في غير ما استثناء للأزقة الضيقة وأبواب المنازل والمحلات التي أصبحت محتلة من طرف «الفراشة»، المهنة التي تعاطاها الشباب والشيوخ والأطفال لتحقيق حاجاتهم وحاجات أسرهم الأساسية والاجتماعية، وإن كانت لا تلبي الرغبة في تحقيق الذات.
وقد انتشر هذا النوع من التجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة، في رأي الخبراء، بسبب نمو اقتصادي غير متوازن، والانتقال السريع من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق، وما ترتب عنه من فقر وتهميش وغياب التدخل الحكومي اجتماعيا، والهجرة نحو المدن لسكان البوادي لتوالي فترات الجفاف، وعدم استفادتهم من مخطط المغرب الأخضر وبرامج التنمية المستدامة، والخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وغيرها؛ والتي عملت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على سد بعض الثقوب في مجال البنية التحتية ودعم الأنشطة المدرة للدخل، لمساعدة ذوي الطموحات في التشغيل الذاتي لتحقيق أحلامهم، حين تعذر عليهم الالتحاق بالقطاع الخاص لضعف مؤهلاتهم وقصور إمكانياتهم ومؤهلاتهم، وهي مسؤولية منظومة التربية والتكوين التي لم يكن عرضها ملبيا لحاجاتهم وميولاتهم وظروفهم الاجتماعية.
منظومة التربية والتكوين ورهانات التشغيل:
تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2016 حول «مستقبل الوظائف والمهارات» تنبأ بكون سبعة ملايين وظيفة ستعرف طريقها نحو الزوال، كما سيعرف العالم مليوني وظيفة لم تكن من قبل بحلول العام 2020 نتيجة الابتكارات التكنولوجية المتسارعة؛ ما يعني أن 65% من الأطفال الذين هم في المدرسة سيلجون سوق شغل وظائفه ليست موجودة حاليا.
فعلى الدولة، وتماشيا مع العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي ينص في المادة 2/6 على «توفير التوجيه والتدريب التقنيين والمهنيين» لمواطني اليوم والغد بما يتلاءم وما يتطلبه سوق الشغل، حتى لا يأتي اليوم الذي ننعت به خريجي جامعاتنا بأنهم «خطر» ولا جدوى من النظام التعليمي الذي خضعوا له، رغم ألا مسؤولية لهم في إيجاده والشعب التي ارتادوها، بل إنهم ضحاياه، نتيجة الربط القائم منذ زمان بين الشغل ونسبة النمو الاقتصادي فقط؛ ما تم التنبه إليه مؤخرا من والي بنك المغرب في تقريره الأخير الذي ينص على أن «كسب رهان التشغيل لا يستوجب فقط تحقيق معدلات نمو أعلى، بل أيضا تعزيز قدرة منظومة التربية والتكوين على الاستجابة لاحتياجات سوق الشغل» ما يستدعي الإصلاح الآني لها لتكون في مستوى اللحظة التاريخية التي هي مدعوة لها، وهو الإصلاح الذي لا يختلف اثنان حول أولويته، رحمة بالوطن والمواطنين. فالتأهيل المطلوب لا يقتصر على الجدران، بل الموارد البشرية التي أصبح يزج بها في الفصول الدراسية بدون تكوين أساس، مع ترك القدماء بدون تكوين مستمر وعدم التحفيز على التكوين الذاتي؛ في ظل افتقار تام لمؤسساتنا إلى الوسائل التي يتطلبها التعليم الفعال والنشيط، القادر لوحده على إنتاج المبدعين والمبادرين إلى تشغيل أنفسهم وتشغيل غيرهم.
0 تعليقات